آخر الأخبار

لقد أشقيتني يا عقلي !!

زايد وهنا 

حدث مرة أن كنت أجول في أحد الأسواق الأسبوعية بإحدى القرى النائية المنسية من الجنوب الشرقي ، و لم يكن يومها يفصلنا عن عيد الأضحى إلا أياما قليلة ، مما استوجب علي اقتناء الأضحية ، توجهت نحو المكان المخصص لبيع الأضاحي و لمحت رجلا من البدو في عقده الخامس على ما يبدو و هو منعزل عن الباعة و ضجيجهم الصاخب يمسك بيده طرف الحبل الذي أوثق به خروفه ، أعجبني شكل الخروف من بعيد فتقدمت نحوه بخطى سريعة لأتفحص الخروف عن كثب ، لاحظت في عيني الرجل نظرة تشوبها الريبة و الحذر و كأن الناس من حوله يريدون به سوءا .
بادرته بالسلام فرد علي التحية و قد طغت عليها لكنة الأمازيغية ، تداركت الأمر و طفقت أتحدث معه باللسان الأمازيغي ، فلاحظت انفراجا في أسارير وجهه و كأن عبئا ثقيلا قد أزيح عن نفسه ،احتدت المساومة بيننا حول ثمن الخروف ، تشتد حينا و تلين آخر ، انتهت بأن اشتريت الخروف بالمبلغ الذي طلبه دون أن ينقص منه شيئا .
ناولته النقود راضيا مقتنعا لا لأن الخروف أعجبني
و لكن أكثر من ذلك أنني أعجبت بدماثة خلق صاحبه و صدقه و صفاء سريرته الفطرية ، و هو ما أثار فضولي و شجعني لمواصلة الحديث معه في أمور بعيدا عن البيع و الشراء خصوصا و قد اطمأن إلي ، سألته لأعرف من أي قرية هو ، تبسم و أخبرني أنه من البدو الرحل لا يقطن بقرية و إنما يسكن في منزل متنقل هو الخيمة بعيدا عن القرى
و المدن إذ لا يستقر به المقام في مكان حتى يرتحل عنه طلبا للكلإ و العشب لماشيته ، له زوجة أنجبت له بنتا و ولدين ،
و هنا قاطعته فورا لأعرف كيف يتدبر أمور أبنائه في الدراسة و هم بعيدون عن المدارس ، و ما السبيل إلى العلاج في حالة إصابة أحدهم بمرض يستدعي نقله عاجلا إلى المستشفى ، نظر إلي نظرة المضطر وأعلمني أنه لا سبيل لتعليم الأبناء فالأمر مستحيل لمن هم في مثل حالته ، و أضاف مبتسما أنه يعلمهم الرعي و كل الأمور المتعلقة بتربية الماشية و هذا كاف ليجعلهم يعيشون عيشة الكفاف ، أما عن المرض فقد ضحك و أخبرني أنهم لا يصابون بأمراض تستدعي نقلهم إلى المستشفى ، و كيف تصيبهم و هم يقضون اليوم كله مشيا خلف ماشيتهم في الرعي ، من شروق الشمس إلى غروبها ، يستنشقون الهواء النقي ، يطلقون بصرهم في الأرض الشاسعة و لا يحده شيء غير الأفق ،لا يسمعون إلا صوت الطبيعة الجميل ، و لا يتناولون في وجباتهم إلا الحليب
و اللبن و الزبدة و الخبز و التمر و كلها طبيعية مما تنتجه الماشية إلا القمح و التمر فهذه يقتنيها مرتين في السنة ، بعد أن يبيع خروفا أو خروفين ، و في بعض حالات المرض قد يتداوون بالأعشاب و هذا يحدث نادرا .
إلى هنا شعرت بنوع من الغبطة — لا الحسد — تتأجج بين جوانحي ، و أردت عمدا أن أعرف كيف هي وجهة نظره عما يجري في بلادنا و بلدان العالم من حولنا ، فاندهش الرجل من سؤالي و قال لي أنه لا يعرف ما أقصده ، و أكد لي أنه لم يزر قط أي مدينة من المدن ، يسمع عنها و لا يعرفها ، كما أنه يجهل تماما ما يجري في العالم ، لأن عالمه محصور في تلك المنطقة التي ترعى فيها ماشيته و التي لا يوجد بها أحد غيره و قد تتسع دائرة معرفته لتلك القرى المجاورة التي يرتادها مرتين في السنة لبيع الخراف و اقتناء الضروريات ، و ما عدا ذلك فهو لا يعرف شيئا .
تعجبت مما قاله و أردت أن أعرف مقدار سعادته بهذا الأسلوب في حياته ، فما كان منه إلا أن أكد لي قطعا أنه و أسرته الصغيرة في غاية السعادة إذ ليس لديهم و لا معهم و لا قريبا منهم ما يكدر صفو عيشهم ، عندها أحببت أن أتأكد من قوله فاقترحت عليه أن يسكن معنا في القرية ، فأبدى على الفور رفضا تاما ، و هنا لاحظت عليه نوعا من الامتعاض و كأنني أريد إخراجه من جنته ، فلم يكن منه إلا أن بدأ يستعجلني لأتركه يذهب لقضاء مآربه و العودة إلى عالمه .
شكرته على سعة صدره و صدق حديثه ، ودعته و انطلقت أجر الخروف و لكنني أحسست بضيق في صدري ، و رغم ذلك أوصلت الخروف إلى البيت و خرجت للتو أبحث عن مكان أختلي فيه لنفسي ، جلست على أريكة بإحدى الحدائق العمومية و استرجعت شريط الحوار الذي دار بيني و بين صاحب الخروف ، فقلت في نفسي :
هذا رجل أمي ، لا يعرف شيئا عما يدور في وطنه
ناهيك عما يجري في العالم ، يعيش وحيدا مع أسرته في خيمة بالخلاء ، يتمتعون جميعهم بصحة جيدة ، لا شيء ينغص عليهم صفو العيش ، في حين أن الكثير منا على قدر من العلم و الثقافة يحمل من الشهادات و الدبلومات أعلاها ، يعيش في مساكن جميلة و يركب السيارات الفارهة ،
له إلمام بكل ما يجري داخل الوطن و خارجه ، و رغم هذا كله فهو لم يجد للعيش لذة ، لكثرة مشاغله و متطلبات الحياة المدنية المتحضرة ، يهفو لتحقيق أكثر مما لديه و لو على حساب صحته و سعادته ، فلا يهنأ له خاطر و لا تعرف راحة البال إلى نفسه سبيلا .
فأيهما أكثر استمتاعا بالحياة السعيدة ؟
بكل صدق أعترف و أقول لقد أشقيتني يا عقلي !!