آخر الأخبار

عـــزلــــة الــكــتــاب

جــمــال أمــاش 

تذكرني عزلة الكتاب اليوم، بكثير من المظاهر الثقافية والاجتماعية، التي أصبحت تعيش عزلة مضاعفة في حيزها، وفي رمزيتها.بالنسبة لتسريب مجموعة من القيم التي هي موجودة أصلا من أجلها،أو بالنسبة لوظيفتها الحضارية،عزلة تشبه عزلة الأضرحة المشتتة في أغلب المناطق والأصقاع،تنتظر زائرا ما يحيي فيها البركات والكرامات،من أجل غيث فالح،ونسل صالح.من المؤكد أن عيد الكتاب سرعان ما ينتهي،بعد حفل التوقيع إن كان،والذي تكثر فيه غالبا الابتسامات والتحيات،كما هو الحال بالنسبة لافتتاح المعارض التشكيلية،تأخذ الصور،وكؤوس الشاي،ومجاملة الفنانين والكتاب،وسرعان ما يبدأ العد العكسي،لنسيان شامل على رف ،أو في كشك،يزاحم فيه الكتاب من طرف اليوميات،وكتب الطبخ الزائدة،والإدارة والرياضة وغيرها.يأخذ مكانا بينها،ويعد ذلك يبدأ في إزاحته من الواجهة إلى زاوية ما،كضيف ثقيل،يعيش أرقه،برودته الأبدية،يصرف المكتوب.وقليلا ما تلمسه يد شاردة تبحث عن الثمن أولا وأخيرا. ويبقى تحت ضربات الشمس ونزلات البرد،ينتفخ فيصاب بالحمى،فأحن على بعض الكتب الإبداعية خاصة،أرعاها أحيانا بنظراتي،وقلقي الكبير على أفكارها،صورها التي تترسب إلى ما تحت الطبقات الحجرية،تتآكل لتترك مكانها إلى قادم آخر،أقصد كتابا جديدا،ليعيش نفس الدورة إلى رف بارد في ذاكرات باردة.وأحيانا ينعم على بعض الكتب بتوقيعات قد لا تتجاوز أعدادها أصابع اليد،من طرف الأصدقاء،والأحباب والمؤلفة قلوبهم،الذين يقدرون ظروف النشر ومكابدات الكتابة، فيشار إلى الكتاب بتعريف لا يتجاوز سطح المجاملة،أو ينال حظه القليل من المقاربة والمباعدة غالبا،وأحيانا ينتزع الكتاب توقيعا بالقوة من جمعية لا يجمع بين أعضائها إلا الخير والإحسان،وليس سؤال/أسئلة الكتابة،التي تبقى مؤجلة دائما في اللقاءات والمهرجانات وفي المؤتمرات أيضا.من المؤكد أن القضايا التي يطرحها كتاب ما،تتوفر فيه شروط القراءة،يتداول بين الناس،وبين المهتمين أساسا،لكنه لا يرقى إلى ما يتمناه لينال صدر مساحة شاسعة من القراء المفترضين،في مجتمع تتحسن نسبة تمدرسه،كما أن الكتب مستويات،كتب تقرأ بسرعة في قطار ما،أو قبل النوم،أو على رصيف مقهى،بينما العين تبحث أمام متجر ما للملابس الموقعة عن كتاب أجدر بالقراءة والتتبع،وتحسين العضلات.وهناك كتب مراجع لا بد منها،في نحت مسار إبداعي،أو في بناء نسق فكري،مكتوبة بعناية شاملة ورعاية يومية رقيقة كما في مشتل لورود لا تذبل أشواكها عوائد الزمان.فإذا كانت المخطوطات القديمة،قدمت نسغها،أسئلة مرحلتها في مختلف المجالات،وأصبحت الآن عبارة عن جثث باردة تنالها الشروح والحواشي وينتهي أمرها،فإن الكتب الجديدة خاصة أغلبها تزداد ميتة،ليس بفقدان المناعة والنقص في الكريات،ولكن بنكران المؤسسات المفترض أن تقوم بدور التعريف والترويج والتوزيع،وكل ما يدخل في باب الماركوتينغ الثقافي.للدولة دورها في منح الكتاب حقه في الحياة،وفي القرب من المواطن في الأحياء الفقيرة والغنية لا فرق،لأن ما نلاحظه ونعيشه يبعث على القرف، وعلى الأسى لحال مدننا التي تحيا بالعقار والإسمنت وتصريف الكلام في المقاهي،بين صائدي العمارات والجيوب،أما المكتبات فلا تعرف عيدها إلا في الدخول المدرسي،وانتهى الأمر.وإذا ما مر بها زائر فلإضاعة الوقت في انتظار طابور إحدى الوكالات البنكية آخر الشهر.وأما من يفترض فيهم العناية بالثقافة والكتاب،أصحاب الشأن المحلي،فليأخذ من رصيدهم حيزا في التفكير،فبالأحرى الاعتناء بالكتاب،لأنهم يفكرون كثيرا في التنمية،ولا وقت لهم للقراءة.وإذا ما رأيتهم أحيانا في إحدى المؤتمرات العالمية فللضرورة فقط. وحتى بالنسبة للبرامج الثقافية التي كانت تهتم بالكتاب في القناتين،فقد هربت إلى برامج ترفيهية للمنافسة بالهاتف النقال.نخجل من بعض المؤسسات والفضائيات التي تهتم بالكتاب وبالكتَّاب وتثير حوله المناقشات وموائد الحوار.بينما نحن كثيرا ما نتحدث عن موائد الأكل وأنواعه.وما جد في عالم المتاجر الكبيرة للمواد الغذائية،وآخر صرعات السيارات.هل نعيش عصر النهايات،نهاية التاريخ ونهاية الجغرافيا،نهاية الثقافة ونهاية الأفكار والمفاهيم.لكننا نسى وينسى المسئولون والقراء أيضا،أن لا إصلاح أو تقدم أو تغيير،أو أي شيء آخر،إلا برواج الكتب والأفكار المنيرة.وهذا ما يزرع الحياة والحرارة في الكتب وفي كتابها،في النوادي وفي دور الثقافة التي أصبحت تفوت للأجانب الذي يعرفون جيدا معنى الثقافة والعمران.نخاف على الكتاب لأننا نخاف على ذاتنا.نخاف على الكتاب من العزلة ومن العنف،عنف الفضائيات، عنف الأفكار الوحشية أحيانا للعولمة،عنف التجاهل واللامبالاة،ليس من الشباب،ولكن من بعض الفئات المتعلمة.أعلاف صديقا لم يقرأ أي كتاب منذ أكثر من عشرين سنة،منذ حصوله على آخر شهادة للتكوين.كيف يمكن قراءة الكتب،هضمها ونقدها،واستيعاب ما تتضمنه من رؤى وأفكار ومفاهيم علمية كانت أو إبداعية أو نفعية حتى.لليومي إكراهاته،كما للمستقبل رهاناته.ولكن للكتاب أيضا حظه من القراءة والحث والتأمل.لأن الكتاب والمكتبات وجه المدينة،وليس ما تراكم من عمارات بشكل بشع.أخاف أن نضطر إلى الهجرة لأن المدينة تضيق بنا،وتتسع لتنمية محسوبة العواقب والأرصدة.هل أقول أن الكتاب مهدد بالتكنولوجيات الحديثة،وينتظر مؤتمرا تنظمه أمريكا لكشف الغمة عن الكتاب؟هل نعيش عصر الصورة فقط،لكي لا نطيق قراءة سطر ما؟ هل نطالب الدولة فرض غرامة مالية على من لا يقرأ،وضرورة القراءة في الأماكن العمومية والخصوصية،أو وضع القراءة كمعيار أساسي في الترقية،وليس شيئا آخر،أو بإخراج مشروع قانون القراءة للجميع،لنا ولها.فإذا كان الكتاب في عزلة،على رف بارد،على رف منزل،أو مكتبة أو خزانة،أو خلال توقيع لا يحضره غالبا إلا أفراد الأسرة،فإني سأظل أحلم بمجتمع مغربي قارئ لا يتهمني بالأمية.