آخر الأخبار

“صــحــافــة الـبِّـيــتــبــول” ( 1 )

سـعـد سـرحـان

كلابٌ تنبح في الجرائد
وعلى الأرصفة
كلابٌ تهشُّ على الأحلام
كلابٌ في الصّفّ
كلابٌ في الخلف
كلابٌ
في إثر كلاب
(ياسين عدنان)

ليس الخبر أن يَعُضَّ الرجلَ كلبٌ، الخبر أن يعض الرجلُ كلبًا. هذا التعريف هو ما نبّهني إلى علاقة الصحافة بالكلاب، وإلى الأهمية التي توليها للعضّ تحديدًا.من حيث الشكل، تكتب الصحافة لتخبر وتفضح، وكذلك تفعل الكلاب حين تنبح. وإذا كانت هذه قد تكشّر عن أسنان مسعورة، فتلك قد تشهر أقلاما مسنونة. فالعضّ والتجريح سيان. ومن حيث المضمون، ففي الكثير من البلدان تطيح الصحافة بالزعماء وترتعد لها فرائص الرؤساء، وما من خطوة إلا ولها فيها حظوة…أمّا في بلاد يَعْرُبْ
فالقافلة تسير والصحافة تكتبْ.بعيدون نحن عن صحافة “واترغيت”، وليس عندنا مثل تلك الصحافية الفذة التي ترجَّاها أوباما ألَّا تقسو عليه في بداية عهده بالرئاسة. نقرأ فقط آلافًا غير مؤلّفة من الجرائد والمجلّات، فيما غيرنا، وراء بحر الظلمات، يقطعون زهاء عشرين هكتارًا من الأشجار، ويُحوِّلونها إلى ورق عدد واحد من جريدة تبيع عشرات الملايين من النسخ. لا نشتري الجرائد ، فنقرأها في المقاهي. ولا نحتفظ بنسخ منها للتاريخ، فالبلاد عندنا مجرد جغرافيا. وفي انتظار أن يُجَنَّ منا رجل فيعض كلبًا، سنكتفي بصحافة، في معظمها، يعضّ الكلابُ الرجال.لقد تأخّر ظهور الصحافة في المغرب عن شيوعها في غيره بقرون، فالبرَّاح والرقَّاص والعطَّار ومن لَفَّ لَفَّهم كانوا يقومون بالواجب على أبطإ وجه. كما تأخّر ظهور العربية منها عن الأجنبية بعقود. وإذا كانت تطوان، الحمامة الزاجلة، وبعدها طنجة الدولية، هما الرحمَ المزدوج الذي تخلّقت فيه هذه لأسبابٍ الكثيرُ منها أطماع، فإن الحاجة إلى تلك أملتها ضرورة شحذ الهمة وفضح المتربّصين بالأمة.ولا عجب أن تكون الصحافة، لدى ظهورها، قد اعْتُبِرت بدعة، فانبرى لها رهط من أولئك العلماء الذين يحرّمون الصابون ويفسرون الطاعون، حتى نُشر بشأنها مقالٌ أين من سخريته سخرية الأقدار، مقال بعنوان: الضرب بالزراويط على رأس من يقرأ الكَوازيط.بوصفها لسانًا ظهرت الصحافة المغربية أول ما ظهرت، لسانًا لحال الحزب الذي يُصدرها، فكانت الأقلام تنبري لتسجيل ما يصدر عنه تنديدًا أو تنويهًا، مساندة أو اعتراضًا. وإليها يعود الفضل في توثيق المواقف والوقائع، وتخليد الأحاديث والأحداث، وصناعة الأقانيم ونحث التماثيل… ومع التكاثر الأميبي للأحزاب، وهو التكاثر الذي ألهى بعضها حتى زارت المقابر، صار لكل واحد منها لسان يتمدّد بالحرارة ويتبربر بالبرورة، يلعق بالأصالة ويأكل الشوك بالنيابة، يلين ويتسلَّط ويُبتلع إذا اقتضى الصمت. لكل حزب صحيفته، يمسكها بيمينه أو بشماله حسب موقعه من السُّدَّة، وفي ذلك فليتنافق المتنافقون.مع بداية الاستقلال، تحوّل المغرب إلى مِرْجل حقيقي، فكان لحطبِ الصحافة نصيبٌ في الغليان. فقد واكبت وأذكت وداهنت وفضحت وتواطأت وصودرت… ذلك أن معركة كسر العظام حول السلطة، ما كان لها أن تمر دون تغطيات صحافية، توضع للبعض في حساب التاريخ وتضع البعض في مزبلته.معارك أخرى شهدتها الصحافة وشهدت عليها، ليست أولاها معركة الخبز بشهدائها، وليست آخرها معركة الحرية التي تخوضها الأجنحة ضد الجوارح والقضبان.
هكذا صار للصحافة شهداءُ
لهم في ذمة الطغيان دماءُ
وصار العديدُ من حملة الأقلامْ
طرائدَ للنظامْ
بين فوهة تردي
وبطش يزجُّ في الظلامْ.
لأجل تلكَ وغيرها من المعارك، فتحت الأحزاب جبهات أخرى، في النقابة والثقافة والمجتمع المدني والتنظيمات الطلابية، وغيرها مما يعِدَ بالغنائم التي تؤكّد جدوى النضال، حتى أن اتحاد كتاب المغرب، بكل بريقه، لم يكن سوى غنيمة حزب. وإذا كانت الصحافة الحزبية تستمدّ من تلك الجبهات الوقود اللازم للسباق، فيما ركّابها ينتشون بالسرعة التي تبشّر بالوصول، فإن أحدًا لم يتوقّع لها هذا الشلل الذي يُخرس المرءَ عن الحادثة وأسبابها، وهو يرى التاريخ ثمنًا للحظة.في تلك العقود التي تبدو الآن سحيقة، كانت صحافة المعارضة المِحْرارَ الذي يرى النظام في كسره شفاءَ المجتمع من الحمّى وما تشي به من أمراض، فيما كانت دار البريهي تبثُّ مغربًا يحلم المغربُ أن يكونَه: مغربًا في منتهى الصحة والعافية والنشاط.وفي تلك العقود التي تبدو الآن سحيقة، كانت الجرائد تحمل من الأسماء العلمَ والمعركة والمحرر والبلاغ و أنوال والمسار… مع ما تحمل هذه من دلالات. وكانت المقالات توقّع بخط اليد، ومع الشعب، ولابد من التفاصيل، وعين العقل، ويا أمة ضحكت… مثلما كانت لها ملاحق لا يُخطـأ لها موعد، ملاحق يحتفظ بها إلى جنب الكتب والمجلات، ويُشار إليها في الرسائل الجامعية.
يُحسب لتلك الصحافة مواكبتها لنبض المجتمع. فقد كانت في القلب من الإضرابات العامة والقطاعية وسواها من الاحتجاجات، تفضح المحاكمات الصورية والتضييق على الحريات، وتندد بتبديد المال العام وغير ذلك من مظاهر البطش والفساد.أما ما يُحسب عليها، فيمكن إجماله في تلك الشوفينية المقيتة التي كان يرعاها فُتُوَّات الحزب، من شاعره الذي لا يُشَقُّ له ديوان، إلى ناقده الذي في وجهه طول، مرورًا بشبِّيحة المؤتمرات. وهي الشوفينية التي كان قتل كاتب أهون عليها من نشر نص له، ما لم يثبت حمضه النووي أنه من صلب الحزب. فأخرست بذلك أصواتًا وأخّرت سماع أخرى، ودفعت أقلاما كثيرة إلى أن تيمّم حبرها شطر أرض الله الواسعة.ولعل قرّاء تلك المرحلة يتذكّرون الآن، اللهم لا شماتة، كيف كانت تُصنع الخشيبات الصالحة للعدّ ساعة التصويت، وكيف كانت تُتبادل القفازات والأقنعة لتصفية الحسابات، وكيف كان يتمّ تمجيد الزّبد على حساب ما ينفع الناس. ولأن الشيء إذا وصل حده انقلب إلى ضده، فإن أحد محرّري تلك المرحلة أوصله ذكاؤه إلى سُدَّة الغباء، فنشر نصا لخليل النعيمي، الذي لا يملك له صورة، مرفقًا بصورة لإدريس الناقوري، معتذرًا للإثنين في الأحد اللاحق. مع أن صورة لخليل غريب أو لجبران خليل جبران أو حتى لأميمة الخليل كانت ستبدو أقل خللًا. فهل كان الفتى ليجرؤ على وضع صورة أيّ إدريس، حتى لو كان إدريس الأول، مكان صورة إدريس البصري دون أن تُعاوِدَهُ آلام الختان؟ولعلهم يتذكّرون، أيضًا، يومَ رفض أحمد بوزفور جائزة المغرب للكتاب، بذلك البيان المؤلم الذي لا يحتاج إلى تبيين، وكيف تَصاحَفَ عليه (أي تكالب عليه كتابةً) رهطٌ من المؤلّفة نُيوبهم، لمجرّد أن حساب بيدره الأدبي لم يوافق حساب حقلهم السياسي الذي يعشش في فزَّاعاته الجراد.وحتى الذين نسوا لم يعدموا من يذكرهم. ففي إحدى حلقات برنامج “مشارف”، أوضح الشاعر عبد الرحيم الصايل أنه يرفض نشر نصوصه ورقيًّا، لأن الورقي لم يعبأ بها حين كان هو في حاجة إلى ذلك…
هكذا عبر الشاعر صوب العائلةْ غير حافل بنباح القافلةْ