آخر الأخبار

رجــــال الـــدولــــة

سـعـد سـرحـان

حين سمعت برجال الدولة أول مرة، وكنت أعرف فقط رجال الشرطة ورجال المطافئ، شط خيالي الأرعن، فرأيت فيها امرأة عملاقة متعددة الفروج لا يستطيعها ذكر مهما كان ذكره، ورأيت فيهم رهطًا من المردة يحمل كل واحد منهم في حجره موقدًا لا يخبو مهما وضع فيها ثالثة أثافيه. أما سواهم، وعلى اختلاف شواربهم، فقد اتّضح أنهم رجال زوجاتهم فقط، وعلى أفحل تقدير.
مع المطالعة ودرس التاريخ ونشرات الأخبار، بدأ بعضهم يتجسد، فإذا منهم بيدبا وميترنيخ ومعاوية وكيسنجر ومانديلا وبيسمارك وجعفر البرمكي الذي كان حكومة لوحده. وبدا أن معظم أدعياء الرجولة، رجولةِ الدولة، ليسوا سوى صبيانٍ لم يشتدّ منهم العود فأحرى الغُلمة.في الطبعة الأخيرة من المغرب، نقرأ عن العديد منهم، ونطالع وجوههم وأخبارهم، ونخزّن الأبرز منهم في تلافيف الذاكرة. لهم أسماء بتضاريس البلاد. منهم من شق عصا الطاعة ومنهم من شق طريقا في الجبال، منهم من طالب بجلاء القواعد العسكرية ومنهم من تفرق دمه بين الفصائل والأحزاب، منهم من لم يقبّل يدًا ولا كتفًا ومنهم من عارض العرين في عز الغابة، ومنهم مهرّب الأسلحة الذي اختير طبيبا ما إن أوشك البلد على السكتة القلبية…ولعل بعض المذكرات و”كراسي الاعتراف” كان كافيا لتحميض صور العديد منهم، والكشف عن عمق بصماتهم في كل ما جرى من دم، الدم الذي سيضرج إلى الأبد تماثيلهم التي لن تقام أبدًا.لا الشكل ولا السن، لا اللون ولا الرائحة تفيد في التفريق بين رجال الدولة وصبيانها. وحده بحر السياسة يفعل. فهو الذي يشي بمن دخله مجرّدًا من الغرائز، وبمن ارتمى فيه، بعد أن خلع ضميره إلى الأبد بعيدًا عن الزبد.ليست الدولة سلطة وريعًا وجاهًا وامتيازات… إنها مخططات وبرامج ومبادئ وقناعات وضمائر في منتهى الحياة… فالضمير (وأقصد الضمير طبعًا) هو المؤشر العاقل في بوصلة السياسة مهما كانت خرقاء.فبوازع منه تحديدًا، بوازع من الضمير رفض محمد حفيظ، وقد كان في مقتبل العمر سنا وسياسة، كرسيا برلمانيا سانحًا. فهل هي الصدفة وحدها ما جعل الرجل، سنوات بعد ذلك، يناقش رسالة جامعية حول الضمير؟وبوازع من المبادئ رفض نجيب شوقي كرسيا بارحًا، مكسرًا بذلك قاعدة عريقة : عدو عدوي صديقي، رافضا أن يزج بلحيته الفبرايرية وسط لحىً لإخفاء الذنوب وأخرى لإخفاء الندوب.حفيظ وشوقي نموذجان فقط لشباب اليسار الذين يفوقون زهدًا العديد من شيوخ الميمنة. وهما عندي أحق بلقب رجل دولة من بعض الصبيان الذين يعبثون بدواليبها. ففي كرة القدم، قد يكون رجل المباراة هو ذلك اللاعب الذي لعب بدون كرة، وليس بكل تأكيد ذلك الذي تسبب لفريقه في ضربة جزاء وغادر الملعب مطرودا إلى الأبد.في الصفحات الأخيرة من نفس الطبعة، نصادف صبيانًا وصبايا في عمر الشوكلاطة والبوتوكس. ونرى كيف انطلى الرويبضة على السياسة. ونضحك ممن يتحدث عن رؤيته لمستقبل البلاد مع أنه لا يرى حتى عضوه الحميم بفعل كرشه العظيم.ونشاهد رهطا منهم وهم يتنابزون بالألقاب والأحقاد. ونقرأ عن تبذير فاحش للمال العام وعن غراميات مرحة لم تخطر لكونديرا على بال. كما نقرأ عن دولتين في واحدة : إحداهما عقيمة والأخرى عميقة، رجال تلك يُهوِّنون من عمق هذه ورجال هذه يُهوِّلون من عقم تلك. ونتفرج على صراع دِيَكَة هي أصلًا محض ريش. كما نتفرج على مسيرات رعناء بالحمير، وحملات تشهيرية لا صوت فيها يعلو على أنكر الأصوات الانتخابية، تلك التي تمت دَوْزَنَةُ حبالها، على مدى عقود من التجهيل والتفقير، خصيصًا لهذا الكورال الشنيع الذي يشنف الحياة السياسية، حتى ليترحم المرء على أيام الطرب الأصيل، أيام كَولو العام “أوزين “ودور بها يا “الشوباني “دور بها : فما كاد الرجل يفعل حتى خرجت عليه وعليها في تطبيق غريب لمقولة صهره الأعظم عبد الرحمن بن خلدون عن شغل العامة، أولئك الذين جلسوا له بالمرصاد في المثنى من النساء والرباعية من السيارات، فالمئة هكتار من الحب ومثلها من التبن.من هذه الدرجة من الإسفاف، أناشدكم جميعا أن ترفعوا أعينكم لتروا كم يبدو الدرك الأسفل راقيًّا.لا شك أن معظم رجال الدولة عندنا، فأحرى صبيانها ومن في حكمهم، لم يقرأوا كتاب “مفهوم الدولة” للمفكر المغربي عبد الله العروي، ليس بسبب ضيق الوقت فقط، وإنما أيضا بسبب ضيق ذات العقل. ذلك أن المستوى الدراسي لبعض سياسيينا لا يتجاوز الباك موان كانز، بل إن منهم من سيرته الشخصية من اليمين(c.v) لا تختلف كثيراً عنها من اليسار (w.c). لذلك، فهم مرتاحون بالفطرة لمفهومها عند حسن الشيكي، حتى دون أن يطّلعوا عليه. فهذا الزجال المغربي المطبوع لخّص أمرها كله في التغول والريع حين قال :

الدولهْ غولهْ *** عندها غير بزولهْ
الصغار ما يرضعوش ** والكبار يرضعو بالسطولا.