آخر الأخبار

تـــعـــجــيــم وضـاد ومــيــم

سعد سرحان

حين كان معظم المغاربة يتنفّسون بمقدار، مخافة أن تُفرض عليهم ضريبة الهواء الذي كان مُشبعا بالرصاص، كانت مقرّرات أبنائهم في مادّة العلوم الطّبيعيّة تتضمّن درسًا شديد الغرابة: التّنفس عند الدّيتيك.أمّا الدّيتيك هذا، فهو صرصور مائي يتنفّس من مؤخّرته وليس من أنفه. ولقد وجد فيه مدمنو القطاني من التلاميذ نِعْمَ الشّريك في المسؤوليّة عمّا يحدث للأوزون.وحين كان معظم المغاربة يأكلون سيخَ كبدٍ مرّة كلّ عام (إذا لم يتمّ إلغاء عيد الأضحى)، وكانوا يحسبون أن السّردين هو السّمك حين يكون صغيرًا، فإذا كبُر صار اسمه الشّابل، كان أبناؤهم، في نفس المادّة، يدرسون أهميّة زيتِ كبدِ سمكِ الغادِسِ لنموّهم. ومع أن هؤلاء التلاميذ كانوا يشترون أقراص صداع الرأس من عند البقّال، فلم يرحمهم أحد، إذ كان لا بدّ للدّرس من أن يشير إلى أنّ الزيت ذاك متوفّر في الصيدليّات، صيدليّات فرنسا طبعًا.وحين كانت المرأة المغربية تلد دزينة، تُرضع منهم تسعة، ويعيش منهم ستّة، فتكون بذلك قد دفعت، مقابل تحديد النّسل القسريّ، خمسين بالمائة من لحمها إلى وكلاء الموت المعتمدين آنذاك، من جُدَريّ وبوحَمَرون وتيفوس وغيرها من الأمراض المخجلة، كان أبناؤها، إذا ما استطاعت إلى المدرسة سبيلًا، يدرسون عن أمراض قارّات وأزمنة أخرى، كالبِري بِري والكُساح والأُسْقُرْبوط… وهي أمراض لا تعني المغاربة في شيء لغنى البلد بالحبوب والبقوليّات والحوامض والشّمس.هذه الدُّرَرُ، التي لا تُقدّر بثمن، وكثيرٌ غيرها، تلقّيناها بالفرنسية على أيدي أساتذة فرنسيين، وتمّ الاحتفاظ بغير قليل منها بعد التّعريب تعميمًا للفائدة التي لاترجى…ولنا فقط أن نتساءل الآن: ما الفرق بين أن يتلقّى التلميذ المغربيّ دروسًا كهذه بلغة أعجميّة أو بلغة الضّاد أو بالميم حتى.لقد كان لافتًا أن يتأهّل منتخب أيسلندا، البلد الصغير جدًّا، إلى ربع نهائي أورو 2016، بعد إقصائه للمنتخب الإنجليزي بكل تاريخه ونجومه وإنجليزيّته. وكان لافتًا أن يخوض نهائيّات كأس العالم 2018 ويتعادل مع الأرجنتين، مثبتًا للعالم أن الثلج نِدٌّ حقيقيٌّ للفضّة. لكنَّ اللافتَ أكثر هو أنّ من بين أفراد هذا المنتخب خمسة أطبّاء ومخرج ومحامٍ وموسيقيّ وطيّار، أمّا المدرّب فهو طبيب أسنان.لقد اجتمعت لهؤلاء عقولُ أطرٍ عليا يسعون بها في المجتمع، وأجساد نجوم يسعون بها في الملاعب، فيخدمون، بذلك، بلدهم إن جدّوا وإن لعبوا. والفضل في ذلك يعود طبعًا إلى التعليم.يدرس الأيسلنديّون اللغة الإنجليزية كلغة عالميّة، لكنهم لا يدرسون بها، وإنما يدرسون بلغة بلدهم غير المنتشرة خارجه، وبها وصلوا إلى ما وصلوا إليه في مؤشّر السعادة. وبهاتين اللغتين يقرأ الأيسلنديّون (فَهُمْ جميعًا قرّاء)، وبلغتهم يبدعون أدبًا عالميًّا استحقوا عليه جائزة نوبل للآداب التي حازها هالدور لاكسنس سنة 1955.ولأن الاعتداد باللغة جزء من الاعتزاز بالوطن، فمن أراد من الأجانب أن يتابع دراساته العليا في جامعات أيسلندا، عليه أن يجتاز امتحان اللغة ويحصل فيه على درجة معيّنة.وللإشارة فعدد سكان أيسلندا لا يتجاوز الآن 350 ألف نسمة، وهو نفس عدد الذين شاركوا في المسيرة الخضراء قبل عقود، وقيل ساعتها إنه يمثل عدد مواليد المغرب كلّ عام.هكذا إذن، فالمغرب منذ أكثر من أربعة عقود وهو يلد أيسلندا كل سنة. ولو كان قد أحسن تربيّة واحدة منها على الأقل، لكانت تَبَرُّ به الآن، ولكان حاله أحسن من حاله.ولنا أيضًا أن نلاحظ أن عدد من يجتازون البكالوريا في المغرب كل سنة يفوق بكثير عدد سكّان أيسلندا. ولو كان المغرب قد أحسن تكوين فوج واحد منهم، لوجدنا من يمثّلنا في كأس العالم، ومن يحلّ أزمة القراءة، بل ومن يضعنا على منصّة نوبل التي اعتلتها أيسلندا قبل حصولنا على الاستقلال. الأيسلنديّون وجدوا الحلّ في لغتهم لأنهم لم يعتبروها قطّ مشكلة، أمّا نحن فقد وجدنا المشكلة في لغتنا لأنّنا لم نعتبرها قطّ حلًّا. لذلك، ستظلُّ اللغة عندنا هي المسمار والقميص المعلّق عليه، أقصد: مسمار جحا وقميص عثمان.ما من دولة في العالم عانت من قسوة وظلم القرن العشرين أكثر من الفيتنام. ولعلّ الرقم 5 ملايين الذي فقدته من أبنائها خلاله أن يُغني عن أيّة تفاصيل.لذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التعليم كان أقوى سلاح في المعركة. فحتى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين كان عدد من يجيدون القراءة والكتابة لا يتعدّى 50 ألفًا من شعب قوامه 23 مليونًا. ومع مستهلّ السّتّينيات كان هنالك 600 ألف طالب في الجامعة، معظمهم درسوا في الأكواخ وتحت الأشجار وغير بعيد عن القصف المستمر.يقول وزير التعليم الفيتنامي إبّان الحرب: إنّ شعار المدارس عندنا هو تعلّم جيّدًا وعلّم جيّدًا.ولأن اللغة مقدّسة، فقد أصرّت القيادات الفيتنامية على بعثها وحمايتها لأجل فَتْنَمَةِ التعليم في كل الأسلاك.وحين طلب أساتذة الطّب مقابلة الرئيس هوشي منه وأوضحوا له صعوبة تدريس الطّب باللغة الفيتنامية… ختم الاجتماع بالقول: يُسمح لكم هذه السنة استثناءً التدريسُ بالفرنسية، على أن تتعلّموا الفيتنامية أنتم وطلبتكم، وعلى أن تجري امتحانات نهاية السنة باللغة الفيتنامية.ما من كتابٍ سماويٍّ تنزّل بالفيتنامية، والعمّ هوشي منه كان شيوعيًّا… ومع ذلك، فاللغة، لغة البلاد، كانت مقدسة.في آخر تصنيف دولي للتلاميذ في عمر 15 سنة على أساس الريّاضيات والعلوم، حلّت الفيتنام في الرتبة 12 مسبوقة بسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية واليابان… أمّا فرنسا فقد حلّت في المرتبة 23 بينما حلّت الولايات المتّحدة في الرتبة 28.بالتعليم انتصرت الفيتنام على فرنسا وأمريكا في الحرب، وبالتعليم هاهي تفعل في السّلم: فالتعليم هو الانتصار المستمر.