آخر الأخبار

تـــعـــجــيــم وضـاد ومــيــم : الجزء الأول

سـعـد سـرحـان

في منتصف ثمانينات القرن الماضي، تَمَّ بمقرّ المجلس القومي للثقافة العربية بالرّباط تنظيم ندوة حول “إشكالية التعليم في الوطن العربي: واقع وآفاق”، شارك فيها نخبة من الجامعيين والمفكرين من ذوي الاختصاص. وإذا كنت أعود إلى تلك الندوة اليوم، فليس فقط لأنّ الإشكاليّات التي طرحها أولئك الأفاضل وتناولوها بكلّ عمق لمّا تزل قائمة حتى الآن، بل لأنّها باتت موضوعًا يخوض فيه الأراذل بكل ضحالة، ويأتيه الرُّوَيْبِضَة من كل فجّ عقيم.الدكتور محمد جسوس، السوسيولوجي المغربي المعروف، كان حاضرًا، ومداخلته كانت من أقوى لحظات الندوة تلك، فهي تلخّص واقع الحال، هنا وهناك، الآن وآنذاك… وسوف أسوق منها فقط الجزءَ الذي يشي بالكلّ:
” …ويمكن أن ألخّص المسألة التعليمية عن طريق قصة، طالما ذكرتها للطلبة. وهذه القصة تتعلّق بملك الحبشة في المنتصف الثاني من القرن 19، كان اسمه، حسب ما أتذكر كاميهاميها الثاني. وقد عُرف خاصّة باجتهاداته في مجال الإصلاح والتحديث والانفتاح على الحضارة المعاصرة له على غرار محمد علي في مصر. ويقال إنّ هذا الملك سمع يومًا أنّ هناك اختراعًا أمريكيًّا جديدًا يتعلق بتقنين طرق إعدام البشر.وهذا الاختراع هو الكرسي الكهربائي باعتباره طريقة نظيفة، سريعة ومضمونة لتحقيق غاية تنفيذ عقوبات إعدامية. فأمر وزراءه باقتناء ثلاثة كراس كهربائية، كيفما كان الثمن وكيفما كانت الظروف. وفي يوم من الأيام أخبره وزراؤه بوصول الكراسي الكهربائية الثلاثة. فذهب الملك بكل زبانيّته وأتباعه إلى الميناء لاستقبال هذه الكراسي. وعندما تَمَّ إنزالها من السفينة طلب ملك الحبشة بأن يقع هنا اختبار مباشر أمامه وأمام الجميع بإعدام شخص ما. وهنا لاحظ ارتباكًا كبيرًا في أوساط أتباعه ومساعديه. وعندما سأل عن أسباب الارتباك، أجابه وزيره الأول: لأنّنا لا نتوفّر على كهرباء يا صاحب الجلالة.وهكذا وجدت الحبشة نفسها تمتلك ثلاثة كراس كهربائية كانت مصنوعة لإعدام البشر في ظروف معيّنة وحسب شروط معيّنة، غير أن غياب الكهرباء جعل هذا النّقل للتكنولوجيا أو للمعارف أو لغيرها، في غير محلّه، وغير قابل للتطبيق.ولكي لا يقال بأن ملك الحبشة قد استعمل موارد عمومية في أهداف لم تعط أية مردوديّة، أمر أن يتمّ تحويل أحد تلك الكراسي الكهربائية إلى عرش من عروشه. ومن ذلك الوقت وهو يجلس من حين إلى آخر على أحد الكراسي التي كانت، في الأصل، كرسيًّا كهربائيًا للإعدام وأصبح أحد عروش ملك الملوك.
أعتقد أن إشكالية التعليم في الوطن العربي في جزء كبير منها، تشبه إلى حدّ كبير مسألة الكرسي الكهربائي. بمعنى أنّنا أمام نُظم تعليمية مقتبسة، في جوهرها، من خارج كياننا وحضارتنا.على اعتبار أن هذه النُّظم التعليمية صاحبت إمّا عملية استعمار ونفوذ رأسمالي، أو انتشار المد الامبريالي…”معضلة التعليم في المغرب هي هذا الهوس باستيراد كل ما هو غربي دون الأخذ بعين الاعتبار مدى نضجه وملاءمة شروطه… فكما كان مُبكِيًّا سعي ملك الحبشة إلى تحديث الموت بالكرسي الكهربائي عوض حرصه على تحديث حياة شعبه أوّلًا بتزويد البلاد بالكهرباء، كان مُضحكًا منظر وزير عندنا يتحدّث في قناة وطنية عن تعميم الطّابليت في المدارس، فيما قناة أخرى تبثّ برنامجًا خاصًّا عن الإحاشة، إحاشة الخنزير البرّي الذي يعترض سُبُل التلاميذ إلى المدارس. ولعلّ من المفارقات العجيبة أن رسب ذلك الوزير، لاحقًا، في امتحان المنارة بميزة سخط ملكّي، بينما الخنزير وأضرابه البشريّة ما زالوا يسدّون كلّ مسلك إلى المستقبل.أحفاد ملك الحبشة، الذين لم تلدهم حبشيّة، بيننا بالذّات والصّفات، مثلما بيننا أحفاد بِطانته التي لم تجهر بعدم صلاحيّة الكرسي الكهربائي إلّا بعد فوات الأوان… ونخشى ما نخشاه أن يكون تعليمنا، المكهربُ أصلًا، يُساق إلى إعدام نظيف.يعاني التعليم في المغرب الآن من كلّ ما يمكن أن يعاني منه: نقص الأطر، الاكتظاظ، الاحتجاجات المتواصلة، اختلاسات غير مسبوقة، مناهج باليّة، نزيف التقاعد المبكّر، تكوين غير كاف، تجهيزات متهالكة… ومع ذلك فهو في صحّة جيّدة، حتّى أنه يحتضر فقط. أمّا الأطباء من حوله، فهم في غاية السوريالية، فعوض أن يسعفوه بالأمصال، ويدلّكوا عضلة قلبه، ويمدّوه بما يضمن النبض للجسد… فإنهم يتناقشون (عفوًا، يتوافقون) بحدّة وبأصوات مرتفعة حول اللغة التي سيعلنون بها وفاته، وكأن هذه اللغة ستدخله الجنة، فيما تلك ستزجّ به في النار.هكذا منّت علينا الحياة مرّة أخرى برؤية “انتهى الكلام” وهو يعود إلى الكلام، ورؤية من دخل الملعب في الوقت بدل الضائع وهو يعطي التعليمات لباقي الفريق بصفته عميدًا في المباراة القادمة… مثلما منّت علينا بفهمٍ عميقٍ لمعنى لغة الخشب: فكلّهم على باب طروادة، وليس أنسب لحصانها من اللغة.كنّا نتمنّى أن يطلع علينا أحد أئمة هذه الفرق الكلامية، ويفتي أمامنا حول لغة التدريس، ولماذا هذه اللغة وليس تلك، وأيّها يرطّب الشعر وأيّها مُزيلٌ للقشرة، وما المقصود باللغات الأجنبية، ومن سيدرّس بها، هل المتعاقدون الذين لا يعرفون بأيّ لغة يُلملِمون كرامتهم من الشارع أم متعاقدون أجانب، وهل سنعود إلى الفرنسيين والبلاجكة أم سنكتفي باليد المُدَرِّسَة الرخيصة من بلغاريا والرومان، وإذا عدنا إلى الأجانب، ألا نكون بذلك نضيّع فرص شغل على أبنائنا، وهل المجزوءة مرادف للمادة، وهل التوافق من صلب الديموقراطية… إلى غير ذلك من الأسئلة الملحّة، سوى أن أحدًا منهم لم يفعل، لا لعجز أو جهل فيهم، حاشا ومعاذ الله، وإنّما لهما معًا.