آخر الأخبار

تـــعـــجــيــم وضـاد ومــيــم : الجزء الأخير

سـعـد سـرحـان

تحتفل رواندا في أبريل 2019 بالذكرى الفضّيّة لنهاية الحرب الأهلية والإبادة الجماعيّة التي ذهب ضحيّتها حواليْ مليون شخص، ودُمِّرت خلالها معظم مرافق الدولة، وخسرت أطرُها التعليمية التي فرّ منها خارج البلد من لم يُقتل أو يُسجن…في أصل الحرب الأهلية نجد العنصرية التي أذكاها الاستعمار بين الهوتو والتوستي (لعلّها الطبعة السوداء من الظهير البربري)، من خلال تمكين هؤلاء من تعليم جيّد يؤهّلهم للمناصب الرفيعة ورغد العيش، وعزل أولئك في مدارس مدقعة تلفظهم في أتون الضنك..لقد تداوت رواندا بالذي كان هو الدّاء: التّعليم.فبعد عشرين سنة فقط على انتهاء الحرب الأهلية، أي سنة 2014، جاء في تقرير عن جودة التعليم، صادر عن اليونسكو، أن رواندا من بين أفضل ثلاث تجارب للنهوض بالتعليم في العالم.لقد غيّرت رواندا لغة التدريس تدريجيًّا من الفرنسية إلى الإنجليزية، وطهّرت مقرّراتها من كلّ ما يذكي نزعة التّفرقة… وها هي الآن تنعم بعاصمة هي أجمل مدن القارّة…خلال عشرين عامًا انتقلت رواندا من الخراب إلى الأبراج.خلال عشرين عامًا انتقلت رواندا من المجاعة إلى السعادة، وبسبب نهايتها السعيدة، قد يلتبس الأمر على المرء لاحقًا فلا يعرف هل هي جارة تنزانيا والكونغو، أم أنّها جارة فنلندا وأيسلندا.فماذا فعلنا نحن؟ لقد كنّا نتنابز بالأحزابْ.أثارت الدعوة إلى التّدريس بالدّارجة ما أثارت بالأمس القريب، قبل أن تعود اليوم على طبق من بغرير لتفتح الشّهيّة لتناول الموضوع من جديد. ولو أنّ البغرير دخل الفصل الدّراسيَّ بالصّوت فقط، وليس بالحرف والصورة، لما كان للموضوع من تداعيّات. فالدّارجة كانت دائمًا جزءًا من الملفوظ داخل المدارس حتى في ذلك الزمن البعيد، قبل أن تستتبّ لها باقي الأجزاء منه في كل النّواحي وكل المناحي… فإذا نحن الآن على أبواب المدرسة العامّيّة التي لا تحتاج إلى تدشين.العامّيّة ليست لغة فقط، إنّها أيضًا في الريّاضيات والفيزياء والاجتماعيّات والإسلاميّات… كما في الفكر والسّلوك ونمط الحياة…فالعامّيّة هي عدم التّفريق بين الحرارة والسّخونة، بين المنحى والاتجاه، بين الوزن والكتلة، بين الأسّ والأساس، بين القوة والشّدّة، بين الحوامض والأحماض… وليس أخيرًا، بين الاستراحة والعطلة.العامّية هي اعتبار مدرّسٍ للاجتماعيات أنّ المائتيْ ألف هي المليون، فإذا عدد المشاركين في المسيرة الخضراء يقارب المليونين، فالنَّسَمَةُ عنده بخمسة أنفاس، تمامًا كما هو الرِّيَّال المغربي بخمسة سنتيمات. ومثل هذا المدرّس كمثل ذلك الصّحافيّ أو ذاك النّقابيّ الذي ما إن تتعدّى مسيرة احتجاجيّة، في تقديره الشّخصي، المائةَ ألف حتى تُعلَن مسيرة مليونيّة.والعامّيّة هي أن يضرب شخص متعلّمٌ ثمانية في ثمانية فيحصل على ستة عشر، ويضرب هذه في إثنين فيحصل على ثلاثين، معتمِدًا الجمعَ ضربًا والاحتفاظ بالفرق كما في عقيدة الخَضَّار الحِسابيّة.والعامّية هي الاعتقاد بأن قوّة المؤمن في قاعة كمال الأجسام، وبأن ما يهلكُنا إلّا الظهر…والعامّية هي أن يطلب مدير ثانوية من أستاذ مبرّز في الرياضيّات أن يصحّحَ نقطة تلميذ وهي 12,5 بجعلها 12,50 حتّى لا يُضيِّعه في 45 نقطة.والعامّية هي أن يسأل تلميذٌ في الإعدادي أستاذَه للغة العربيّة عن ذَكَر الأفعى، فيردّ عليه بالدّارجة الفُطْحى: الجرانة كتولد لحنش.العامّيّة هي أن تخرج أستاذة في رخصة ولادة، وحين تعود بعد 98 يومًا، تجد أن من عوّضها هو حارس أمن المدرسة.والعامّيّة هي تنقيط مُدَرِّسة، من طرف المسؤول الأول عن القطاع، أمام تلامذتها، ومحاكاة تدخين السّبسي تحت قبّة البرلمان، والتّطاول على رئيس دولة عظمى، أقصد أوباما باباه طبعًا. مع أن باباه هذا، لو صحّتِ الأخبار بشأنه، سيكون أحد عظماء إفريقيا. فالرجل درس طفلًا في ظلّ شجرة في كينيا، قبل أن يغادر صوب حلمه في أرض الأحلام، حيث سيدرس ابنه في ظلّ هارفارد، ويصبح رئيسًا منتخبًا لأقوى دولة في العالم.والعامّية هي إطلاق النكات على المعلّمين في المقاهي والمجالس وحتى في وسائل الإعلام في جسارة مغشوشة، فالذي يشرب حليب السِّباعِ على الكُوعَلّيم يتخثَّر جُبنًا في نفسه عند الحديث عن الكومسير والكولونيل…والعامّيّة هي أن تعرض إحدى القنوات شريطًا مغربيًّا، يمرّ فيه تلميذ في الابتدائي إلى السّبورة، يستعمل رمزًا للترتيب بشكل خاطئ، فينفحه الأستاذ حسنًا جدًّا، ويطلب منه العودة إلى مقعده. ولا أحد من شعب الجينريك نَبَّهَ، في أثناء التّصوير، إلى أنّ أحدهما ليس في محله: الرمز المستعمل أو حسن جدًّا.والعامّية هي خروج حشود من التلاميذ إلى باب البرلمان للهتاف بحياة رئيس الحكومة ورأس أمّه، وبلغةٍ يندى لها العِنّين.والعامّيّة، ليس أخيرًا، هي هذه التي عَمَّتْ وعَمَّتْ حتى هالتْ.مع مطلع الألفيّة الجديدة، ولأسباب تتعلّق بوجاهة التخطيط وبعد النظر، وحتّى لا يغادر التلاميذ المدارس في وقت مبكّر من العمر، لجأت الوزارة الوصيّة إلى العمل بما كانت قد أسمته “الخريطة المدرسية”. أبرز خطوط هذه الخريطة أن يقضي التلاميذ، على الأقل، تسع سنوات على مقاعد الدّرس، وأن ينجحوا بمحض اجتهادهم أو رغمًا عنهم ليفرغوا المقاعد للناجحين، بنفس الأسلوب، من المستويات الأدنى… وهكذا بدأ معدّل النجاح في العدّ العكسي: 06، 07، 08، 09، 10… إلى أن وصل إلى 03 على عهد وزير الطّابليت، وبات الرّسوب يتطلّب واسطة لا ترسب.التلاميذ الذين فُرِض عليهم النجاح، كانوا يغادرون أسوار المدرسة، بعد تسع سنوات، برصيد معرفيّ محترم يخوّل لهم تركيب أرقام الهاتف، والتفريق بين الحافلة 13 والحافلة 31… أمّا من استطاع منهم أن يواصل، فلم يكن يعدم حيلة للحصول على الباكلوريا، بعد أن باتت التكنولوجيا ومواقع التواصل فاعلًا أساسيًّا أيام الامتحانات، ليلتحق بالجامعة ويتخرّج منها كيفما اتفق.العديد مِمّن فُرِض عليهم النجاح قبل أن يُفْرَض عليهم التّعاقد، سيُفْرَض عليهم تدريس العلوم بالفرنسية… ولكم أن تتخيّلوا نهاية طريقٍ بهكذا خريطة.لنعترف منذ البداية بأن الإنجليزية ليست سوى أرنبِ سباقٍ في حلبة اللغات المحموم هذه الأيام، ليس فقط لأن معظم تلامذتنا لا يعرفون من الإنجليزيّ سوى ما يقيمون به الأود على مواقع التواصل الاجتماعي، وليس فحسب لأن مواردنا البشرية، على تباين مستوياتها، أعجزُ من أن تصفّق لهذا الاختيار، فأحرى أن تضطلع بتنزيله على أرض الأقسام، وليس… وإنّما فقط لأن البّوديوم محجوز بالكامل لحصان الفرنسيّة المطهّم، حتى نضبط صهيلنا على قاموس فرنسا، مثلما فعلنا بساعاتنا مع ساعتها.لكن، هل ستكون العودة إلى الفرنسية موفّقة أم ملفّقة؟ للإجابة عن هذا السّؤال، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء. فحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كان أساتذة اللغة الفرنسية لا يدخلون الأقسام قبل الاستحمام، أقصد، قبل أن يأخذوا حمّامًا لغويًّا في فرنسا (ومثلهم كان يفعل أساتذة اللغات الأجنبية في البلدان الأصلية لتلك اللغات).وكان تلاميذ الإعدادي يدرسون سبع ساعات في مادة الريّاضيّات ومثلها في اللغة الفرنسية، وثلاث ساعات في الفيزياء ومثلها في العلوم الطّبيعيّة، إضافة إلى ساعتين للتربية البدنية التي كانت، هي الأخرى، تُجرى بالفرنسية، فيتعلّم خلالها التلميذ أسماء الحركات والأنشطة والمُعِدّات… بلغة موليير. وهذا الغلاف الزمني كان يتغيّر في الثانوي حسب الشُّعَب. وقد كانت معظم الموادّ تعرف التّفويج، مع أنّ عدد التّلاميذ في الفصول ما كان يقتضي ذلك. وأذكر أنّ حتى أساتذة المواد العلمية من الأجانب، وقد كان بعضهم يقضي فقط خدمته المدنيّة في المدرسة المغربيّة، كانوا يصحّحون الأخطاء اللغوية ويشطبون كلّ حشو في الأجوبة، ويأخذون ذلك بقلم الاعتبار عند التنقيط، عكس ما حدث مع التعريب من تساهل قسريّ مع اللغة، فإذا العدد والمعدود على وئام تام، فلا يكون هذا عكس ذاك أبدًا، وإذا المثنّى يُرفع ويُنصب ويُجرّ ويُجرجر بما حضر، سيّان الألف والياء.أمّا الغلاف الزمني فقد تقلّص إلى النّصف تقريبًا، في تناسب عكسي مع عدد التلاميذ في الفصل الذي تضاعف فعلًا. فالصّحن أصبح أفقرَ وأصغرْ، والأيادي من حوله صارت أكثرْ. ومع ذلك، هنالك مَنْ يستغرب من الأولادِ هذا الهزالْ، ويستنكر منهم الإقبالْ على وجبات البقّالْ.تقليص الغلاف الزمني كانت له تداعيّات كثيرة، لعلّ أشهرها شيوع السّاعات التّكميليّة، المعروفة خطأً بالساعات الإضافيّة. فهذه الأخيرة كانت بهذا الاسم حين كان التلميذ يأخذ كفايته من المدرسة، ويضيف إليها تحسينًا لمستواه. أمّا الآن، فالآباء يُكملون تدريس أبنائهم، ليلًا ونهارًا، من جيوبهم في ضرب مُبرّح لمجّانيّة التعليم المفترى عليها.هل سنعود إلى زمن التدريس بالفرنسية بكل ما كان عليه، من صرامة وانضباط وعقلانية ومعدّات وأغلفة زمنية غير متقشّفة… وإذا كنّا سنفعل، فكيف وبماذا وأين وبمن؟
…في غياب دراسة جادّة وغير مُغرضة حول موضوع فَرَنْسَةِ التعليم، وبإغلاق الآذان أمام أصوات علماء اللغة وخبراء التربية وذوي الاختصاص… ستظل تصريحات سيّاسيّينا مجرّد عبارات عروضيّة تتعثّر بالزّحافات والعلل، وتُنذر بأنّ كلّ ما نحن مقبلون عليه، إنّما هو مجرّد ترجمة مشاكل التعليم إلى الفرنسية، وأقصى طموحنا ألّا تكون ترجمة رديئة.في أول جمعية للأمم المتحدة بعد الاستقلال، ألقى مندوب المغرب كلمته بالإنجليزية. وحين سألته الصحافة لماذا لم يفعل بالفرنسية، ردّ قائلًا: المغرب بلد مستقل والعربيّة ليست لغة رسميّة في الأمم المتحدة.فهل المغرب الآن بلد غير مستقل؟ وهل اللغة العربية فيه غير رسمية؟ وما محلّ الأمازيغيّة من الإعراب ومن الإعجام معًا؟ أليست، هي أيضًا، لغة رسمية وتستحق أكثر من غيرها أن يتمّ التّمكين لها؟ ومتى ستحظى بذلك في أفق أن يصير لها موطئ قدم في الجامعة على الأقل من خلال شعبة تُدرِّس آدابها؟ليست الفرنسيّة الآن سوى قَرْمَلَةٍ في حقل اللغات. والذي يعوذ بخالته فرنسا، إنّما هو كالفرزدق إذ يعوذ بخاله، في بيت جرير الشهير.ومع ذلك، قد لا يتأخّر الوقت قبل أن نسمع من يُهَلِّلُ: عُدْنا، والعَوْدُ فْرَانْسْوا، نِكاية بالحصان العربي الأصيل المعروف بالعَوْد أحمد.