آخر الأخبار

بريد إلى الأحياء بريد إلى الموتى

بريد إلى الأحياء بريد إلى الموتى” (ص. ب 1492″ لسعد سرحان )

عبد الرحيم الخصار

هي ليست في الضرورة رسائل راينر ماريا ريلكه إلى شاعر شاب، ولا رسائل ماريو فارغاس يوسا إلى روائي ناشئ. ليست أيضا تلك الرسائل الشهيرة المتبادلة بين ماري هاسكل وجبران خليل جبران. إنها هذه المرة رسائل الشاعر المغربي سعد سرحان، وقد يكون الأدب آخر أهدافها. رسائل حقيقية تبادلها الشاعر مع أشخاص من الواقع، هدفها الإبلاغ والإخبار أحيانا، وإخراج القلق من مساكنه الضيقة في أحايين أخرى. فبعد “حصاد الجذور” و”شكرا لأربعاء قديم” و”نكاية بحطاب ما”، يصدر سرحان كتابا نثريا عنوانه “ص.ب 1492” عن “دار أركانة”.
قد يتبادر الى القارئ أن النص لسرحان، لكنه سيكتشف العكس في الرسالة ما قبل الأخيرة التي وجهها الى الشاعر العراقي جمال جمعة بلغة رشيقة: “كنت أعدّ كتابي “ص.ب 1492” للطبع عندما وقعت قصيدتك – الرسائل تحت عيني، لقد أعدت قراءتها أكثر من مرة طبعا، وكم تمنيت لو أني كنت صاحبها حتى أضيفها إلى كتابي المزعوم، ولأن نيل المطالب ليس بالتمني فقد أخذتها غلابا – أقصد “الرسائل” – ثم جعلتها مفتتحا للكتاب متناسيا ذكر اسمك”.
هذه مجموعة من الرسائل وجهها إلى عدد من الأصدقاء وغير الأصدقاء. فأحيانا يسمّي المرسل إليه الصديق المبدع يوسف أبوطه، الأستاذ ميكلوش فاموش، الأستاذ الشاعر إلياس لحود، والمرحوم أحمد بوكماخ، وأحيانا أخرى يترك الأسماء ناقصة لكنها تحيل في الضرورة على شاعر او كاتب: أخي ياسين، الحميم عبد الرحيم، الصديقة العزيزة لطيفة، العزيز جمال، أخي هشام. ثمة رسالة موجهة إلى أمه وأخرى إلى جدّه الوقور، ثمة أيضا رسائل إلى رئيس مكتب البريد في الحي المحمدي وإلى مسؤولي دور النشر وإلى القارئ أيضا. ترد هذه الأخيرة في خواتيم الكتاب تحت عنوان “توطئة”: “عزيزي القارئ، اعذرني إن كنت لم أفكر فيك إلا في اللحظة الأخيرة، فقد كان لا بد لي من أن أفعل ذلك حتى أبدو معتدا بنفسي… الكتابة اولا والقارئ أخيرا: هذا هو شعاري المفضل وأتمنى ألا تكون قد صدّقتني”.
تتسم لغة سعد سرحان هنا بالخفة والرشاقة والطرافة، حيث التقابلات اللغوية والمفارقة والتكثيف والتجاور وتكسير المتوقع والاستطراد المتعمد، فيبدو ذلك كله شبيهاً بلعبة دومينو، وأحيانا بلعبة كنا نمارسها كي نرتب أجزاء الصورة. ما يفعله سرحان هو بذل جهد واضح من أجل تشتيتها مما يجعلها أشبه بصورة تجريدية.
يقول مثلا في رسالة عنوانها “محاولة فاشلة”: “العزيز جمال، لقد أقدمتُ على محاولة انتحار لا بأس بها، لولا أنها باءت بالحياة، وذلك بأن تناولت دفعة واحدة كمية غير مسموح بها من “القصائد” التي انتهت مدة صلاحيتها. أعدك أيها العزيز بأني لن أعيد الكرة ما دمت على قيد الشعر”.
وفي واحدة من أفضل رسائل المجموعة يخاطب سرحان جدّه الراحل بأسلوب طفولي ينم عن عمق الكاتب وشساعة رؤياه وذكائه في التفاعل مع مفردات اللغة، فيبتعد عن اللغة المتداولة في الأعمال السردية. الكلمات متجاورة بحس هندسي واضح، والجمل لا تصل بك نهاياتها إطلاقا إلى حيث تريد، وثمة الكثير من الصنعة، لكن مياه الانسانية تتدفق غزيرة خلف السطور: “جدي الوقور، يؤلمني حقا أن رسالتي هذه لن تصلك أبدا، فبريد الأحياء لا يصل إلى الموتى، إذ ما من ساعٍ طبعا، ومع ذلك فأنا مصرّ على أن أخبرك عسى أن يكون في ذلك ما يثلج قبرك”.
يحكي سعد سرحان عن أقربائه من الأحياء ويسأل جده عن الموتى منهم، متحسرا على ما آلت إليه الحياة بعد رحيله، فتبدو رسالته عزاء للجدّ، في ما خلفه وراءه وربما عزاء للكاتب نفسه في الزمن الجميل الذي اختفى باختفاء جده. في “عوادي النص” يخبر الكاتب صديقه ياسين عدنان بأنه خلص بعد تأمل طويل في كتاباته إلى نتيجة حاسمة، وهي الاستغناء كليا عن علامات التعجب التي لم تعد تقدّم شيئاً، لا لنصوصه ولا لنصوص غيره، فهي “تثير من الألم أكثر مما تثير من العجب في زمن لم يعد فيه من عجب عجاب بعدما ظهرت كل الأسباب”.
في الرسالة الأخيرة إلى الراحل أحمد بوكماخ، أحد أشهر المعلمين والمربين في المغرب ومؤلف أمتع الكتب المدرسية، يستعيد سرحان مؤلفه اللافت “اقرأ”، بأجزائه الخمسة، متقمصا أحد أبطاله، الطفل سعيد الريفي، متخيلا ما صار إليه كل طفل من أطفال ذلك الكتاب، جاعلا لكل عنصر حمولة رمزية تمتد به إلى الواقع الثقافي والسياسي والاجتماعي في المغرب، حيث تتحول البراءة تدريجيا مكراً وخديعة واحتيالا: “مريم البليدة ترشحت هذه السنة للانتخابات البرلمانية باسم حزب “الذكاء الاجتماعي”. حسن الكسلان تم تعيينه شهبندر الكتاب. أحمد الذي يراقص العفريت أصبح مشعوذا كبيرا. طاحونة الطلاسم – التي يا ما حلمت بامتلاكها- أصبحت واقعا لا خيالا، وبين ظهرانينا الكثير ممن يملكون واحدة تصنع لهم قصورا على البحر وأرصدة شقراء وسيارات شبحية وضيعات تجري من فوقها الآبار وحورا بعدسات لاصقة وعبيدا ممن ولدتهم أمهاتهم أحرارا”.