آخر الأخبار

الـــمـــرأة مُــــذكّــــرًا”

سـعـد سـرحـان

اللغةُ مؤنثٌ لغةً، ومع ذلك فالمرأة تعاني من حيفها مجازًا أكثر ممّا تقاسي من ظلم شقيقها فعلًا. ففي الرّحم تسمّى جنينًا، حتى بعد أن أصبح التصوير بالأشعة يلتقط تاء التأنيث. فإذا غادرته بعد مخاض نقول: وُلِدَتْ، مع أنّ أمها بَنَتَتْها ولم تلدها.ولن نعدم من يسخر منّا إذا أردنا أن تستخرج لها شهادة البِناتة… أمّا الأم والأب فهما الوالدان، لا البانِتان، حتى لو أنجبا بناتٍ فقط.ومنذ بِناتتها حتى وفاتها، تظل المرأة تسعى في المجتمع بأسماء حركيّة لا تخلو من ذكور، فهي بنت فلان، ثمّ زوجة علان، فأم فرتلان. كما أنها سكرتيرة المدير، أو مساعدة الدكتور، أو بائعة البغرير…لا تتحرّك المرأة إلّا بعد أن تنتدب لها اللغةُ ذَكرًا يتقدّمها، فهو أمامها ليحضنها أو يحميها أو ليؤمّن لها السبيل… إنه لباسٌ لها، وهي بدونه عاريّة: مجرد جسدٍ، ولأن الجسد لا يُؤنّث، فهو لا يُعَوّل عليه.جسد المرأة مذكّرٌ لغةً كأيّ جسد، لكنه يختلف عن جسد الرجل في بنيته وفي أكثر من عضو. ومن نكد اللغة على المرأة أن حتى عناوين أنوثتها وأمومتها تحمل أسماء مُذكَّرة. أفكّر في الرحم والثدي و…جسد المرأة لا يُؤَنَّثُ إلّا بعد الموت إذ يصبح جثةً. وسيّانِ جثةُ امرأةٍ وجثةُ رجل. ثم ها هو جسدها قد تأنّث أخيرًا، وبعد فوات الحياة، فمن يُعوّل عليه، من ذا يعوّل على جثة؟ تعرف المرأةُ أنّ حدودها في خرائط الشهوة هي حدود جسدها، لذلك فهي تغادره رمزيّا لتتوسّع خارجه، فإذا هي الوطن حين يَعِزُّ الوطن، وهي الأرض ما دارت أمّنا الأرض، وهي الأرض، أيضًا، ما حُرثتِ الأرض وما ضاعت.لا ترتدي المرأة اللباسَ الأنثى ولا تتحلّى بغير الذّكر من الحليّ. أفكر في الفستان والقفطان، وفي الجلباب والحجاب، وفي العطر والكحل، وفي العقد والقرط، وفي الخلخال والخاتم والسّوار، وغيرها ممّا يلتفُّ حول الجذع والبراعم والأغصان. أفكّر في الحرير وأفكّر في الذهب… لكأنّ اللغة تُعوّض المرأة عن مؤنثها بالمذكّر من النفائس، فيما هي تأسرها به شغفًا.الأرجح أن المرأة لم تكن من بُناة البرج، برجِ بابل، فلما تبلبلتِ الألسُن وتوزّعت اللغات، لم تتسلم واحدة. هكذا ظلت بلا لغة تحمل اسمها كما تحمل العربية اسم يَعْرُب والأمازيغية اسم مازيغ… لقد سلب الرجل من المرأة اللغة الأصلية، لكنه لم يسلب منها شهادة ملكيّتها: اللغة الأم.لذلك، فالمرأة تتعلّم اللغات بأسهل ممّا يفعل الرجل، وتتكلّم حتى وهي صامتة. فكلّ جسدها ألسنة فصيحة. تقول إذا نظرتْ وإذا أسبلتْ، وتقول إذا عرضتْ وإذا أعرضتْ، وتقول إذا استمهلتْ وإذا استعجلتْ، وتقول بالخَجَلِ وبالوَجلِ، وتقول بالهوينى وهي تَتَثَنّى… كما تقول بالغنج أجمل ما تقول.اللغة مذّكرٌ أيضًا، فهي اللسان. واللسان عند الرجل عضو ينتصب منه قبل أن ينتصب منه غيره، تمامًا كما هو التغزّل قبل الوصال.في القديم، كان الشاعر يقول، يقول ولا يكتب، لسانه القلم، وهو، لذلك، رمزٌ للفحولة. كان الشاعر يفتتح بالمرأة، وكأنّ اللسان لم ينتصب إلّا لأجلها، فهي بكارة القصيدة، يفتضّها فيحظى بمجد الفحول.لا أطلال في أيامنا هذه، ولا لغة حتى…وإنّما، فقط، لسانٌ ينهش لسانٌ يخاطب نفسه: قفا نتحرّشْ…هكذا وعكس جدّتها التي خلّدتها القصائدْ ستجد المرأة نفسها تمشي وسط الشِّباك والمصائدْ وقد لا يتأخّر الوقتْ قبل أن تضطرّ إلى خلع جسدها كلّما همّت بالخروج من البيتْ…كيف إذن تتحرّر امرأةٌ مخفورهْ إنسانًا ولسانًا بهذا القدر من الذكورهْ؟