آخر الأخبار

الـتـلـقـيـح ضـد الـكـبـت – 2 –

سـعـد سـرحـان

التلقيح ضد الكبت

قبل نصف قرن كان نصف المواليد يموتون بأمراض لم يعد لها الآن ذكر. فكانت المرأة تلد دزينة فتربي دستة فقط، بعد أن يكون الجذري وبوحمرون والتيفوس قد اقتسموا الباقي. فالأمراض، لا غيرها، ما كان يقوم بتنظيم الأسرة، ولولاها لكان عدد المغاربة أضعاف ما هو عليه اليوم. ولعلّ من ألطاف الله الظاهرة أن تزامن ظهور التلقيح ضد هذه الأمراض مع انتشار وسائل منع الحمل.الطبعة المزيدة والملقحة من المغاربة، والتي تشكل أكثرية واضحة، لم تنج من تلك الأمراض إلّا لتكتسب أخرى أخطر بكثير. لا أقصد السرطان والسيدا وما في حكمهما، فهذه تقتل من تصيبه في أسوء الأحوال، وإنما أقصد تلك التي تصيب المرء فتفتك بكثير غيره. وإذا جاز لنا أن نضع كل تلك الأمراض، على كثرتها، تحت مسمّى واحد، فلن نجد أبلغ من الكبت. فالجشع والتسلط والسطو والانتهازية والتنطع والتدليس والنرجسية والادعاء… إنما هي أسماء للكبت المالي والروحي والاجتماعي والديني وغيرها من أقرباء الكبت الجنسي وخلّانه. فهي جميعًا وراء الاغتصاب المستشري في البلاد، اغتصابِ الجسد والروح، الأرض والعرض، الحق والعرق، الحرية والوقت، المال وماء الوجه… وما هذه التشوهات الخلقية والأخلاقية التي يحملها المجتمع سوى بعض من نتائجه الظاهرة.لقد بات عاديًّا الحديث عن تفخيذ الرضيعة وحرث العجوز واغتصاب المختلة والمعاقة وما عاف الحمارْ.وأصبح مألوفًا اختلاس المليارِ والسطو على العقارِ من الشقة حتى الألف هكتارْ.وأضحى الغش والبطش والتكديس والتدليس من علامات الوقارْ.وأمسى موضةً أكل حقوق الناس بالشوكة والسكين واحتساء عرقهم مع الكافيارْ.بل إن بعض مفلسي الضمير لم يعودوا يرون في البلد، هذه البلد، سوى صالة للقمارْ.لهذا الغيض فقط، سيكون مفيدًا من التحليل النفسي أن يدع جانبًا عقدة أوديب، ويتفرّغ لهذه الكومة من العقد التي انتهى إليها غير قليل من بني جلدتنا. وكم سيكون جميلًا منه أن يبتدئ بعقدة قارون وعقدة هارون وعقدة شمشون…أما الطب الحديث، فنتمنى عليه أن يدير قليلا ظهره للسيدا والسرطان وغيرهما من الأمراض البسيطة، ويركّز جهوده على اختراع لقاح ضدّ هذه الأنواع الفتّاكة من الكبت.

الإحاشة والطّابليت

في بعض مناطق المغرب، لا يعاني التلاميذ فقط من الفقر والعطش ووعورة الطرق، وغير ذلك مما يواجهونه بعزائمهم الفتية المستمدة من أحلامهم بمستقبل كالمستقبل، وإنما يعانون أيضًا من الخنزير البري الذي يعترض سبلهم فيرعبهم أو يصيب بعضهم إصابات قاتلة، فينقطع غير قليل منهم عن الدراسة لهذا السبب المخجل بالذات.لم أكن لأعرف بهذا الأمر لولا أني صادفت ذات مساء ربورتاجًا في التلفزيون حول الإحاشة : حشود من البشر بالبنادق والعصي، تخرج الخنازير من آجامها وتطلق عليها النار، فيما يواكب ذلك تقرير عن أسباب النزول. وكم تمنيت لو أن مسؤولينا ينظمون إحاشة مستمرة في المنعطفات والحافلات وعند أبواب المدارس… للحد من خطورة الخنازير المقنّعة التي تتلف المحاصيل الدراسية قبل تحصيلها.في نفس الفترة تقريبًا جرى الحديث عن تعميم الطابليت في المدارس (اقرأوا جيّدًا : الطابليت وليس الطواليت)، فوزيرنا في التعليم ساعتها كان، كما كان من قبل، متحمّسًا لتكنولوجيا المعلوميات تحمّسًا أعمى جعله لا يرى الواقع المغربي الذي لا يرتفع. وهو الأمر الذي يذكّر على الفور بملك الحبشة الذي كان مولعًا بالتحديث لدرجة استيراد الكراسي الكهربائية حتى قبل تزويد البلاد بالكهرباء، مثلما يذكّر بنصيحة ماري أنطوانيت لفقراء الثورة الفرنسية بتناول الكعك إذا لم يجدوا خبزًا.وعلى ذكر الخبز، فقد حكى لي صديق أن تلميذًا في إحدى الداخليات كان لا يخبّئ كِسرة الخبز لجوعه القادم إلّا بعد أن يضعها على الحائط ويحفها بالقلم، حتى يتأكد حين العودة إليها، وقد طابقها مع رسمتها، من أن زميله لم يقضم منها. وحتى لا أقلب المواجع أكثر، أكتفي بهذا الفقر.الإحاشة والطابليت وجهان ليس للتعليم فقط، وإنما للصحة والإدارة وباقي مناحي الحياة، حتى ليبدو المغرب برمّته كعملة يجري تعويمها، قبل تعليمها السباحة، فيغرق تارة نحو الإحاشة، وتارة يطفو على سطح الطابليت، أمام خوفنا عليه، نحن الذين لا نملك غيره، ممن يتربصون بقارب نجاته بعد أن أمّنوا لأنفسهم ولنسلهم يابسة أخرى.