آخر الأخبار

الشيخ محمد بن سليمان الفاسي : شمس أفلت قبل وقت غروبها – 7 –

من خلال هذه الأبيات، نلاحظ كيف يخاطب الشيخ محمد بن علي ولد أرزين الشيخ محمد ابن اسليمان، ويقول عنه في النص: (ما خوفي إلا نيتم اشبابُه)، وهي إشارة صريحة إلى أن لحظة نظم هذا النص من طرف الشيخ ابن علي ولد أرزين كان الشيخ ابن سليمان شابا صغير السن، وأنه مات كمدا أياما قليلة كما أشرنا بعد اطلاعه على هذا النص، ألا يكفي هذا دليلا على أن الشيخ قد مات في ريعان شبابه؟.

والقضايا الخلافية حول حياة وشخصية الشيخ محمد بن سليمان لم تقف عند هذه النقطة، بل طالت أيضا أسباب وفاته، حيث ذهب فيها المهتمون مذاهب شتى، ملتقطين بعض الإشارات لباحثين ماهدين أشاروا إلى أن ابن سليمان رثى نفسه قبل موته[21]، وذلك من خلال قوله في حربة قصيدته “الوردة”:
لا اتلوموني في ذا الحال جيت نشهد وانودي * يا اعدولي فالموت اسبابي خال فوردة
وهذا ما دفع ببعض الذين تعرضوا للقصيدة انطلاقا من هذه القولة إلى الترويج لكون ابن سليمان كان مريضا بالسل، وكان يعرف أن أجله قد أزف، وسيموت قريبا، ويستدلون على ذلك بقولهم: (أعدولي فالموت اسبابي خال فوردة)، فاعتبروا حسب تقديرهم أن (الوردة) هي رئة الشاعر، وأن (الخال) هي النقطة السوداء التي تشير للمرض الذي أصاب رئته، وبدأوا في تأويل ألفاظ النص وصيغه ومعانيه لكي تلائم وتساير مفهومهم ذاك، والذي ينطلق من كون موضوع قصيدة “الوردة” هو رثاء الشاعر لنفسه وتحديد سبب وفاته.

ولو أننا عدنا لهذا النص وقرأناه بطريقة موضوعية مضبوطة، سنجده بعيدا كل البعد عما يشير إليه هؤلاء، وأنه لا علاقة له بما يشيرون إليه من ربطهم له بموت الشاعر وسببها ورثاء نفسه فيه قبل موته، بل النص عشاقي محض، وكل المعاني المولدة من أساليبه موجودة سواء في الشعر العربي القديم، أو تم تداولها بين رجالات الملحون قبل الشيخ ابن سليمان وتم توظيفها من طرفه، بل إن منها ما هو عالمي كما هو الشأن بالنسبة لسهام الحب، والتي انطلقت من الأسطورة العالمية (سهم كيوبيد) المعروفة، وحتى لا نكون ممن يلقون القول على عواهنه، فإننا سنعود للنص، ونقاربه بطريقة موضوعية، معتمدين على المشيرات الدالة التي تضعه في خانته السليمة، وهكذا نجد القصيدة تنقسم منهجيا إلى ست حركات هي كالتالي:
الحركة الأولى: [تتضمنها حربة القصيدة أو لازمتها]، فالشاعر من خلال هذه (الحربة) توجه بالخطاب للذين جاؤوا لعيادته أثناء مرضه، وأخذوا يلومونه على الحال التي وصل إليها، وأن عليه الاهتمام أكثر بصحته مخافة أن يموت وينقضي أجله سدى، يعترض الشاعر على أقوال لوامه راجيا منهم أن يقصروا في لومهم، ويكفيهم أن يكونوا شهود عيان وهو يحتضر أمامهم، وعليهم أيضا أن يعرفوا أن السبب في موته شيء واحد وهو حبه الجارف لفتاة جميلة بخال فوق خدها المتوهج الجميل، والذي يشبه الوردة المتفتحة، وهو في هذا التعبير الأخير قد لجأ أولا للاستعارة، حيث شبه خد المحبوبة بالوردة المنقطة بنقاط سوداء تزيدها بهاء وجمالا، وحذف خد المعشوقة ببعد استعاري لتصبح الاستعانة [22] تصريحية، كما لجأ أيضا إلى الكناية[23]، حيث لم يذكر المحبوبة، بل كنى عنها بالوردة، وهي كناية الموصوف، مادام قد أطلق اللفظ وأراد من ورائه موصوفا، وهذا تطبيق بلاغي غاية في الروعة والبهاء.
الحركة الثانية: [ونحصرها في القسم الأول من القصيدة]، حيث جسد الشيخ ابن سليمان معاناته مع هذا الحب، وصورها بشكل مادي، حتى يدركها عاذلوه ويقلعوا عن لومه، فقد صور الآلام التي يكابدها جراء هذا الحب بضربات النبال التي تَصْدُرُ عن رام متمرس لا تخطئ سهامه، متوسلا هنا أيضا بالاستعارة، عندما شبه هُدُبَ (أشفار) عيون المحبوبة ب(السهام)، و(حواجبها) ب(القوس)، والرامي المتمرس هو المعشوقة ذاتُها، وحذف المشبه لتصبح الاستعارة تصريحية، وليت الأمر وقف عند رشق ذاته بسهم فقط، بل إن هذه السهام تكاثرت وتتابعت من كل جهة حتى أنهكت جسده المكلوم، وأصبح حاله كما قال الشاعر العباسي أبو الطيب المتنبي[24]:
رماني الدهــر بالأرزاء حتى ** فـؤادي فـي غـشاء مـن نبـال
فصــرت إذا أصابتـني سهــام ** تكسرت النصال على النصال
وهــان فــما أبالــي بالــرزايا ** لأني مــا انتـفـعــت بأن أبالي