آخر الأخبار

الجنود الحمر

سعـد سـرحـان

يُذكّر هذا العنوان على الفور بالهنود الحمر، السكانِ الأصليين للقارة الأمريكية، مع أن المقصود به شيء آخر تمامًا. فموضوع سكّان المغرب الأقدمين، الذي كان في عُهدة التاريخ، بات الآن في كنف المختبر، بعد اكتشاف بقايا عظام أقدم إنسان عاقل في جبل إيغود.فالجنود الحمر، الذين أقصد، هم أولئك المغاربة الذين فتحوا المغرب على غيره من البلدان، وفتحوا أكثر عيونَ أممها عليه دون إراقة قطرة دم. وفي كل مرة فعلوا، كانوا يرفعون بيرق البلاد أو يغرسونه حيثما ظفروا. ومع أنهم بلا عدد محدّد، فالإشارة إلى بعضهم قد تدل عليهم جميعًا.في مكسيكو 70، حضر المغرب أصالةً عن نفسه ونيابةً عن الدول العربية والإسلامية والإفريقية. مباراته الأولى كانت ضد ألمانيا الغربية المشهود لها بعلو الكعب في اللعبة. لذلك، فالجمهور الذي كان في المدرّجات، جاء بهدف الاستمتاع بالألمان، واكتشاف اللاعبين المغاربة كعيّنة مُمَثِّلة لأقوام تجوع شهرًا وتأكل كبشًا.”إلّا أنّ اللاعب حمّانْ بهدف مبكّرافتض شباك الألمانْ ففرض الاحترام على الجمهور الحاضرْوأغرى الغائب منه بشراء التذّاكرْ”.في العام 76، سيعود الجنود الحمر بكأس إفريقيا من قلب إثيوبيا، بهدف بابا، وهو الأغلى حتى الآن في تاريخ كرة القدم المغربية.في العام 86، سيعود الجنود الحمر إلى المكسيك بكتيبة تحمل رهان التقدم أكثر من سابقتها. وقد كان لها ذلك بعد أن مرّت إلى الدّور الثاني كأول فريق عربي وإفريقي يفعل في تاريخ المسابقة. وحتى الآن لا أحد يعرف لماذا حضر المغرب في عرسيْ المكسيك معًا وظهر بأحسن صورة، وإن كنت أرجّح أنّ الجنود الحمر تلقّوْا نداءَ دمٍ من أسلاف ذلك البلد : الهنود الحمر.لا يتحرّك الجنود الحمر جماعاتٍ دائمًا. فمرارًا شوهدوا فرادى، وفرادى أَبْلَوْا كما لم تفعل كتائب. أجل، هم بالضبط من أقصد: عويطة والمتوكل، العيناوي وأرازي، الكَورش وبالقاضي، عشيق ورحيلو، الغواتي وأمنحار، بالكايد وعبد الرسول والقنديلي… وما هذه القائمة من حملة الّلواءْ سوى بعضٍ ممّن اخترنا أن يحملوا تحياتنا إلى نُظرائهم في البلاءْ.وبعيدًا عن الرياضة، هنالك جنودٌ حمرٌ في الآداب والعلوم والفنون… يحصلون على جوائز مرموقة، ويتقلّدون أوسمة رفيعة، ويتصدّرون المجالس والمنظمات ومراكز البحوث… وما من أحد منهم إلّا ويستحقّ أن تُرفع له القبّعة وتنحني له الهامة. وإليهم ، دون استثناء، نرسل تحياتنا مع مريم شديد التي غرست راية البلاد عميقًا في الأرض، وتحديدًا في القطب الجنوبي، ومع نادر خياط الذي غَنّى البلاد كأعلى ما يكون الغناء. فهذا الجندي الأحمر أتى بما لم تستطعه الجحافل. وإذا جاز لنا أن نستعير له ثانيةً من القدماء، فلن نجد أبلغ من قولهم: رُبَّ رِّيدْ وَانْ خيرٌ من ألف أزرق.لا شكّ، بعد كلّ ما سبق، أن جنودنا الحمر هؤلاء يشكّلون جيش تحرير جديدًا، جيشًا حرّر البلاد من محلّيّتها الضيقة، وخرج بها إلى رحابة العالم. وما من حديث عن ثروتنا اللاماديّة يستقيم دون وضعهم على رأسها، كما لا يستتبّ الحفاظ عليها دون حفظ ذاكرتهم وذكراهم.لهذا، أقترح على الدولة إنشاء متحف وطني خاص بالجنود الحمر، يعرف منه الزوار أيّ رجالٍ وأيّ نساءٍ أنجب البلد، مثلما يعرف منه الخلف من يكون السكان الأصليون للمجد. وليست التحف ما ينقص، فصورة حمّان وهو يسجل على مايير، وصورة نوال وهي تجهش بذهب الأولمب، تبعثان في النفس ما تعجز عنه عشرات التحف التي لا أحد يعرف بالضبط لأيّ شيء تؤرّخ.لدينا حَمَلَة الكرة الذهبية والميداليّات الأولمبية، وأصحاب الأرقام القيّاسية وأبطال العالم في ألعاب القوى والملاكمة وفنون الحرب، ولدينا حاملو كؤوس قاريّة وأبطال في التنس والجمباز… ولدينا حاصلون على جوائز أدبية وعلمية مرموقة وموشّحون بأوسمة من أرقى الأكاديميات، ولدينا مفكرون وأدباء وفنانون ومخترعون…بهؤلاء وغيرهم من صُنّاع مجدنا الجماعي يمكن أن نؤثث هذا المتحف. فصورهم وحواراتهم وتسجيلاتُ منجزِهم وما كتبت عنهم الصحف وما بثّت الشاشات، وصور الجماهير في استقبالهم في المطارات ودموع الفرح وصراخ الاعتزاز، ومتعلقاتهم من قمصان وأحذية ومسودات وكؤوس وميداليات وأوسمة وخلاف ذلك مما يتبرّعون به أو تقتنيه منهم الدولة…كل هذا وغيره من التحف، يمكن أن يولَم للزائر، فيُشبع الأجنبيُّ منه الفضولَ، ويُغذّي المغربيُّ منه الروحَ الوطنية، كما يوفّر للباحث منهما معًا موسوعةً لا تخلو من ضالّته… فما من ضالّة للمجد إلّا وسيكون لها موضع معلوم في: متحف الجنود الحمر.