آخر الأخبار

ولو في الصين …

عبد الله العلوي*

 

يبدأ تاريخ الصين المكتوب في 2852 قبل الميلاد وهو التاريخ الرسمي الذي تختلط فيه الحقيقة بالأسطورة، ويمتد التاريخ الصيني لسبعة آلاف سنة قبل الميلاد أخرى غير مكتوبة كلها أشبه بالأساطير، ويمكن استشراف لمعات حقيقية في هذا التاريخ الموغل في القدم. ومهما تكن معرفتنا بالصين التي لم تبدأ حتى وقت متأخر فهذه البلاد الشاسعة التي اعتبر مواطنيها حتى سنوات مضت وبالضبط منذ ماقبل 1860 ميلادية أن كل ماهو غير صيني مجرد متوحش، بل إن ترجمة كلمة أجنبي كان مرادفها في اللغة الصينية تعني متوحش.

لقد اعتبر الصينيون أنفسهم “أعظم الأمم مدنية وأرقاها طباعا” وبالفعل فإن الصين عرفت منذ القدم بالمحكمة ونظام الدولة ومجلس الوزراء واختبار الامتحانات لولوج المناصب والوظائف حسب الكفاءة لا النسب، والفنون بكل أنواعها حتى قبل أن تعرفها الحضارات النهرية المتقاربة في التاريخ مثل حضارات الهند والعراق ومصر. والأعظم في مجال التاريخ أن الصين اعتبرت دائما جنة المؤرخين ذلك أن الجزء الهام من تاريخها كتب من طرف المؤرخين وحفظ في سجلات عبر القرون وكذلك الأغاني والأشعار والقصص والخطب والحكم والفلسلفة. فمثلا انظر إلى ما يقول الحكيم الصيني الأستاذ جوجتي في خطاب له أمام الإمبراطور “لي وانج” في عام 845 قبل الميلاد، اقرأ هذا الربط الجدلي بين نظام الحكم والوضع الاجتماعي:”يعرف الإمبراطور كيف يحكم إذا كان الشعراء أحرارا في تشخيص المسرحيات، والمؤرخون أحرارا في قول الحق، والوزراء أحرارا في إسداء النصح، والفقراء أحرارا في السخط على الضرائب، والطلبة أحرارا في تعلم العلم بدون عوائق، والعمال أحرارا في مدح مهارتهم وفي السعي إلى العمل، والشعب حرا في أن يتحدث عن كل شيء ، والشيوخ أحرارا في نقد كل شيء”.”1″

إننا لا يمكن أن نتحدث عن الصين في هذه العجالة، كما يستحيل علينا ذكر زعمائها وحكامها الذين بلغوا شأوا كبيرا وعلى رأسهم كونفوشيوس كما هو معروف، هذا المعلم العظيم الذي لا يمكن مقارنته بأي معلم آخر في تاريخ الإنسانية.

وكونفوشيوس الذي ولد في 551، وتوفي عام 469 قبل الميلاد، وضع أسس التعليم وأهدافه وأسس مدرسة تخرج منها آلاف الأطر ووضع بصماته على التاريخ الصيني حتى أن البعض قال: إن الصين قبل كونفوشيوس هي غير التي بعده، الشيء الذي لا يستغرب معه إحدى معارك الزعيم الراحل “ماوتسي تونغ” 1893-1976. كانت مع هذا الفيلسوف وأفكاره الذي مات منذ 22 قرنا مضت.

ويتميز المجتمع الصيني أيضا بوحدة العرق والقومية فالهان يشكلون 90% من السكان، بينما لا تشكل باقي القوميات وعددها 56 سوى 10%، ولكثير منهم الحكم الذاتي في مناطقهم وضمنهم 50 مليون مسلم “2”.

“اطلبوا العلم ولو في الصين” هذا الحديث الشريف الذي أشار إلى الصين منذ 14 قرنا، والقصد هنا معنيين المسافة، وكون العلم في الصين، فرغم المشقة فالعلم فريضة يجب ركوب المشاق حتى ولو بعدت المسافات من أجله كما يؤكد الرسول عليه الصلاة والسلام.

وأيضا فالصين كانت دائما بلد العلم، وكان لها دور إنساني ضخم في الميدان العلمي والسياسي والاجتماعي وصل صيته إلى جميع أنحاء العالم.

لقد كان أول بلد عرف صناعة الورق منط القرن الثاني قبل الميلاد، وكان أول كتاب مطبوع في التاريخ الإنساني هو الصادر في الصين في سنة 868 ميلادية، والذي اكتشف في القرن 10 ميلادي. وعلاقة الصين بالإسلام والمسلمين واهتمامهم المتبادل قديمة بغض النظر عن زيارات الوفود من تجار وسفراء وعلماء ورحالة إلى الصين، فإن هذه الأخيرة كان لها اهتمام خاص بالإسلام حتى إنها أنشأت في سنة 1289 م جامعة خاصة بدراسة الإسلام وضعت منهجا لدراسة الفلك الإسلامي في 1368 م.

وكان اهتمام المسلمين بالصين هو الآخر كبيرا، فقد عرف التجار المسلمون الطريق إلى الصين وتعاملوا مع أهلها واستوطنوا البلاد الصينية، كما لا ننسى أن البلاد المجاورة للصين سواء الهند أو تركيا القديمة كانت تحت حكم المسلمين، وبالتالي كانت علاقتهم مع الصين المجاورة معروفة منذ القدم بعكس أوربا ، فلم تعرف الصين حتى سنة 1583 م على يد البعثة التبشيرية الفرنسية مع استثناء رحلة ماركو بولو 1275-1291م، وبقيت البعثة التبشيرية الفرنسية في الصين حتى 1610م، وحاول الغرب بعد الثورة الفرنسية في 1789م وبداية مرحلة الاستعمار محاربة الصين وفكرها لتهيئ الأرض للاستعمار وللمسيحية التي لم تعرف نجاحا يذكر في الصين رغم الاهتمام الشديد بالصين من طرف الكنيسة. وكان التدخل الغربي عنيفا في الصين أدى إلى حروب متواصلة كان أعنفها حرب الأفيون في 1840-1842م- التي كان الهدف منها إرغام الصين على زراعة الأفيون واستهلاكه، وكانت هزيمة الصين في هذه الحرب إيذانا بفتح أبوابها للاستغلال والاستنزاف والتدمير الفكري، وقد دخلت اليابان الحلبة أيضا، والتي لم تكن تملك المواد الأولية فاعتبرت الصين منجما استغلته بكل بشاعة، وكان آخر استعمار عرفته الصين هو الاستعمار الياباني والذي اعتذر عنه وعن مآسيه إمبراطور اليابان في كلمات مقتضبة ظلت الصين تطالب بها طويلا.

كانت مرحلة الاستعمار والاستنزاف التي مرت منها الصين طوال 5 قرون، حافزا للزعماء والمفكرين في القرن 18 على محاولة النهوض من الكبوة التاريخية التي سقطت فيها الصين، وقام المصلحون بالدعوة إلى إجراء عملية الإصلاح شاملة، ومنهم السيد “دي يوان” المتوفي في 1859م التي تركزت دعوته إلى تعلم التكنولوجيا الحديثة، وصدرت ترجمات باللغة الصينية لعلوم الرياضيات والهندسة والزراعة، وأنشأت أول مدرسة لتعليم اللغات الأجنبية في العاصمة بكين في 1862م ودار الترجمة في شنغهاي في 1865م والمعهد العلمي لتكوين الأطر في مدينة “ووهان” عام 1893م.

أما على المستوى السياسي فقد ظهرت عدة مجلات ونواد، كما برز ساسة دعوا إلى إصلاح الأوضاع في الصين وبعضها هاجم أفكار “كونفوشيوس” ومن المجلات ذات الأهمية، هنا نشير إلى مجلتي “الشباب” و “الشباب الجديد” اللتين ظهرتا في 1916 و1918م، وبدأت الكتابات حول الديمقراطية والفكر الدستوري تعرف طريقها إلى هاتين المجلتين الرائدتين، وكان النظام الإمبراطوري في آخر أيامه بعد إنشاء الحزب الوطني بزعامة “صن يات صن” الزعيم الوطني الكبير الذي قاد الثورة وأعلن الجمهورية، وكان أول رئيس لجمهورية الصين حتى وفاته 1925م.

كان الاستعمار الياباني لازال جاثما في بعض المناطق الصينية الهامة كمنشوريا، وكان الحزب الشيوعي قد تأسس بزعامة “شيان توهيو” في 1920م بعد 3 سنوات من ثورة 1917م في روسيا، وعقد مؤتمره الأول في 1921م وانتخب قيادة جماعية، إلا أن الحزب الوطني كان هو المهيمن سياسيا واجتماعيا آنذاك، وتولى “شيان كاي شيك” بعد وفاة “صن يان صن” زعامة الحزب الوطني والدولة التي لم تكن موحدة، أما الرئيس “ماوتسي تونغ” فلم يصبح زعيما للحزب الشيوعي إلا في 1930م. ورغم اتفاق الحزبين الوطني والشيوعي على محاربة التواجد الاستعماري فإن المعارك بينهما لم تنته، حتى انتصار الحزب الشيوعي بزعامة “ماوتسي تونغ” ودخوله بكين في الفاتح من أكتوبر 1949م، وفرار الحزب الوطني إلى جزيرة فرموزا التي بقيت ممثلة للصين في مجلس الأمن حتى سنة 1972م عندما طردت واحتلت بكين مقعدها في المجلس.

المرحلة الجديدة:

كانت الصين في عهد الحزب الشيوعي الذي بدأ في 1949م، قد قضت على المجاعة واكتسبت التقنية النووية ، وكان أول تفجير ذري في 1964م، وأول تفجير هدروجيني في 1967م، وكان إعلان الثورة الثقافية في 16 ماي 1966 التي قادها الزعيم ماو ضد الموروثات المحبطة، وتم عزل “ليوشاوشي” رئيس الجمهورية و”دينغ هسياوبنغ” سكرتير اللجنة المكرزية، وغاب “لين بياو” وزير الدفاع في حادث غامض في 1971م، وعاد “دينغ هسياوبنغ” إلى القيادة في 1974م، عندما شرح من منبر الأمم المتحدة نظرية الرئيس “ماو” حول العوالم الثلاثة، إلا أن دينغ عزل مرة أخرى، وفي 1976م توفي الرئيس ماو، وتولى “هواكفنج” قيادة الحزب والدولة، وتم اعتقال ما سمي بعصابة الأربعة وضمنهم زوجة الزعيم الراحل ماو وسط حملة اعتقالات كبرى، وفي سنة 1977م أعيد “هيسياوبنغ” إلى جميع مناصبه وأصبح الزعيم الأول للصين، وهو الذي وجه السياسة العامة الاقتصادية والاجتماعية للدولة منذ ذلك الحين، وثم اتخاذ خطوات جريئة كإعادة الانضباط الإداري للمعامل والمصانع وإلغاء اللجان الثورية وإعادة سلطة المديرين، وخلق مناطق اقتصادية حرة، وإنشاء مدارس متميزة وإرسال البعثات الطلابية إلى الخارج. وجاءت الثورة الطلابية في بكين عندما احتل آلاف من الطلاب ساحة “تيان ان مين” أمام المقر المركزي للحزب في 1989م رغم المحاولات التي بذلها رئيس الوزراء “لي بينغ” والذي ذهب عدة مرات إلى الطلبة يناشدهم العودة إلى مقاعدهم، فاتخذ الحزب قرار إعطاء الأمر للجيش للتدخل لتصفية المشكل، وبالفعل انتهى مشكل ساحة “تيان ان مين” الذي رأى فيه الغربيون محاولة لزعزعة الحكم الصيني وتصفيته، وتولى الأمانة العامة للحزب السيد “زيمين”، وعرفت الصين تغييرات كبيرة بعد انتفاضة ساحة تيان أن مين، وتولت القيادة عناصر أخرى وتم تحول الصين نحو ما سماه دينغ هيسياوبنغ الطريق الرأسمالي نحو الاشتراكية.

المسلمون في الصين:

يؤكد المؤرخون أن الإسلام عرف طريقه إلى الصين في القرن السابع ميلادي، بل أن مدينة كسيان تحتضن أول مسجد شيد في الصين عام 742 م، ولازال لحد الآن تقام فيه الصلوات الخمس وصلاة الأعياد والجمع، ويتوفر على مدرسة لتعليم القرآن للناشئة، وقد اختلف في عدد المسلمين في الصين، فالحكومة تؤكد أن عددهم عشرون مليونا، بينما يرى البعض أنهم خمسون مليونا، وأن هناك مسلمين في مختلف أرجاء الصين لازالت رابطة الإسلام تجمعهم، وإن اختلفت الممارسات فبعضهم لايربطه بالإسلام إلا عدم أكل لحم الخنزير والشهادة وبعضهم إسلامهم كامل. وتتواجد في مختلف أنحاء الصين مطاعم خاصة بالمسلمين كالمطعم الإسلامي في شنغهاي، وطعام المسلمين في بكين، ومطعم المسلمين في كسيان، وهذه الإعلانات بالعربية، وأغلب المسلمين في الصين من قومية “هوي هوي” ومسلموا دولة تركستان التي أصبحت منطقة شنغ شيانغ والذين كانت لهم حظوة كبيرة في البلاط الإمبراطوري خاصة في القرنين الثاني والثالث عشر، وامتازوا بقدرات كبيرة في المهارات الصناعية البحرية، ولهم لغة خاصة تكتب بالأبجدية العربية وهي لغة -هوي هوي- معترف بها في الصين ومكتوبة على النقود الورقية الصينية هي و 4 لغات أخرى. والأبجدية العربية من خلال الأرقام العربية دخلت أيضا إلى اللغة الصينية التي هي لغة رموز ولا تتوفر على أبجدية وقد حلت الأرقام العربية أشكالا كبيرا في اللغة الصينية، وأيضا في التدوين الموسيقي الكلاسيكي، وكان ذلك في القرن 18. فقد كانت الأرقام تكتب في اللغة الصينية بالرموز كالمفردات اللغوية مما شكل تعقيدات لغوية، فجاءت الأرقام العربية واندمجت في اللغة الصينية وصارت كالمفردات، والأمر نفسه في التدوين الموسيقي، فالموسيقى الصينية حلت مشكلة التدوين عن طريق الأرقام العربية فأصبحت النوتة أو التدوين الموسيقي – وهو أشبه بتدوين الموسيقى العربية القديمة بنظام الكسور- عن طريق ترادف الأرقام واختلاف صعودها وهبوطها، والصينيون يؤكدون في كتاباتهم ومدارسهم الابتدائية والعليا فضل الأرقام العربية على لغتهم، ويسمونها “الأرقام العربية” وهكذا استفادوا من الحديث النبوي الشريف “اطلبوا العلم، ولو في الصين”… وبعكسها تمشي الأشياء.

والإسلام في الصين عرف انتشاره الكبير في القرن الثاني عشر، وينتمي المسلمون في الصين إلى العرب والفرس، ويروي ابن بطوطة الذي عاش في الصين لقاءه بعدد كبير من المسلمين، وأنهم كانوا يسكنون أحياء -أو مدنا- خاصة بهم ولا زال التقليد ساري لحد يومه، ففي مدينة كسيان القديمة يعيش المسلمون في حي خاص بهم ويعتمرون الطاقية تمييزا لهم، وعادة فإنهم يسكنون حول المسجد، وتتوفر الصين حاليا على 30 ألف مسجد مع استثناء التي أغلقتها السلطات الصينية في منطقة شنغ شيانغ.

وليس فقط ابن بطوطة الذي أشار إلى أهمية المسلمين في الصين، فقد أشار ماركو بولو الذي عاش في الصين مابين 1270-1295م أيضا إلى ذلك والذي كان في الصين في زمن متقارب نسبيا لمقام ابن بطوطة الذي عاش في الصين في 1346-1345م.

 

 

 

 

مراجع:

انظر قصة الحضارة للأستاذ “ول ديورانت” المجلد الرابع ص 4.

ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، إصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الطبعة الجديدة.

حول المسلمين انظر المسلمين في الصين لفهمي هويدي.

هناك حربان حول الأفيون حرب 1840-1842 وحرب وقعت مابين 1856-1860 كانت أخف من الأولى ولم تنل نجاحها.

كان الاتحاد السوﭬياتي بزعامة خروتشوف وقع مع الرئيس الصيني معاهدة 1958 “حول الوسائل الجديدة للدفاع” تم إلغاؤها فيما بعد من طرف موسكو، إلا أن الصين بوسائلها الذاتية امتلكت البرنامج النووي العسكري فيما بعد.

هذه العبارة لدينغ مع غيرها من أفكارها ليوشا وشي التي جاءت في كتابه “كيف تكون شيوعيا جيدا” كانت ردا على أفكار الرئيس ماو.

انظر كتاب “تساؤلات حول الصين”.

للأستاذ شارل بتلهايم ترجمة دلال البزري.

 

*باحث