آخر الأخبار

نظرات في أشعار محمد بن إبراهيم تكرور للدكتور محمد رشيد السيدي -2 –

عبد الرحمن الخرشي 

قـراءة فـي الكتــاب:

استهل المؤلف كتابه بإهداء أبرز غايته من تأليفه( خدمة التراث )، ومحاولته أن يفتح نافذة التواصل مع جميع من يخدم التراث المغربي؛ يقول فيه:” إلى كل مهتم بالتراث المغربي “، وفي هذا الإهداء ما أعتبره أنا شخصياً بمثابة إزاحة المؤلف الستار عن الخلفية النظرية لما سيقوم به من عمل بحثي وعلمي لمواجهة الضياع والنسيان المستشرين في البيئة المراكشية بخاصة…

أما العنوان فقد أفصح عن مقصد صاحب الكتاب من كتابه؛ فهو( نَـظَـرَاتٌ )؛ نظرات فيما أتاحته تلك الأشعار للمؤلف من مجال للتفكير فيها، ومحاولة توضيح ما تضمنته من خلال قراءة توظف اللمح السريع مع قليلٍ من تركيز التأمل فيها من النواحي الفنية، والجمالية، والدلالية…

كما تضمن الكتاب عرضاً مقتضباً تناول حياة الشاعر، مع مدى ارتباط نسبه بجذوره السباعية الصحراوية، مع إشارة المؤلف لغزارة علمه وتنوع معارفه، ومساجلاته الفقهية، وما انتهى إليه من اعتزال الناس وهو المناضل، الفقيه، العالم، الشاعر، الأديب، الناقد، المؤرخ، المتفاعل مع مجتمعه الذي سينتهي به الأمر إلى الزهد والتصوف وفق الطريقة الدرقاوية.

وركز المؤلف في هذا الكتاب على مواقف الشاعر النضالية الوطنية ضد الاستعمار الذي طحن المغاربة بكلكله وهو يجثم على أطراف عدة من المغرب، ومدى استماتته في الدعوة للمحافظة على الهوية العربية الإسلامية للمغرب، ووقوفه في وجه كل ما يخدش القيم والسلوك المغربيين؛ وبخاصة من طرف الاستعمار!

ومما عرض له المؤلف في كتابه- وشدد عليه – محنة الشاعر التي أرغم على تذويبها بسلوكه ونهجه الصوفي ونقل ذلك في أحد أهم كتبه:” سيف النصر ” الذي كتبه الشاعر في” سجن مصباح ” بمراكش وما ميز هذه الفترة في حياة الشاعر اعتكافه على الكتابة التاريخية التي طُبعها بنفحة أدبية، فنية، بلاغية، وفقهية؛ وأغلب ما سيطر على اهتمام محمد بن إبراهيم تكرور في المرحلة؛ النقد والشعر على ما سواهما:

1 – في مجـال النقــد:

تعتبر الكتب والمخطوطات التي وقف عليها الدكتور محمد رشيد السيدي في هذا الجانب منبعاً أساسياً غذى تصوره العام حول الآراء النقدية للناقد/الشاعر محمد بن إبراهيم السباعي- تكرور – فيما تجمع له من الأحكام النقدية حول أشعار بعض شعراء عصره؛ كشعر الشاعر والمؤرخ المغربي ورجل الدولة على عهد السلطان مولاي سليمان( 1206 – 1238هـ – 1791 – 1822م ) محمد بن أحمد أكنسوس( 1211 ـ 1294هـ – 1796 1877م )، وشعر علامة المغرب في القرن الثاني عشر الهجري، وقدوته محمد اليوسي( 1040 هـ – 1102 هـ )، وأورد الدكتور محمد رشيد بعض أحكام محمد بن إبراهيم النقدية؛ التي بدت- رغم بساطتها اليوم- تشكل وعياً متقدماً من نقد الشعر المغربي في تلك المرحلة. كما أنها تعزز المستوى الفني والجمالي عند( الناقد ) محمد بن إبراهيم، وتؤشر على عمق ثقافته العربية الخالصة.

2 – في مجال الشعر:

عرض الدكتور محمد رشيد السيدي لهذا الجانب عند محمد بن إبراهيم لما شدد- في العنوان – على أن ما سيتناوله في الكتاب هو( أشعار )، وأن صاحبها لا يوافقه من الأوصاف إلا أنه( الشاعر والعالم )، وفيما سيوضحه باعتباره حاز على مبعث قناعته، ومن اختياره، وما ركز جهوده عليه أثناء البحث عن مادة شعرية اعتمدها في الدراسة؛ حيث قال: »وقع اختياري على جمع ما وقفت عليه من أشعار حبَّرَهَا الشيخ محمد بن إبراهيم السباعي- تكرور – في ثنايا مخطوطاته، بشكل غير مباشر أثناء حضوره في مناسبات، أو مساجلاته لبعض الشعراء أو تصديره لبعض الحِكَم والنصائح، أو ختمياته للعلوم التي كان يُدرِّسُها في حلقات جامع ابن يوسف بمراكش والقرويين بفاس« (2).

وفي واقع الأمر فإن الشريف محمد رشيد السيدي لا يدرس ويحلل من انطباع أو من فراغ، وإنما وفق مشروع اختزله في: »استجماع تراث بعض الأعلام المغمورين، الذين لم تسلط عليهم الأضواء لسبب من الأسباب« (3)، إلا أن هذا المشروع سيواجَه بمجموعة من الصعاب منها ما له علاقة بما تعرضت له مادة الكتاب الشعرية والعلمية من الإتلاف، وما تعرض له الشاعر من المضايقات، وما معاناته في السجون والمنافي، والإبعاد، ومن حجز كتبه؛ ومما استشهد به المؤلف على ذلك ما جاء في الموسوعة التاريخية المغربية في التراجم؛ كتاب( الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام ) لمؤلفه الفقيه المؤرخ والقاضي العباس بن إبراهيم المراكشي؛ قوله:” وأما محنته بالسجن، فلأسباب وأمور كانت تنقل عنه إلى المخزن، أعظمها شدة شكيمته وكثرة أفكاره، وكانت الدائرة المخزنية إذ ذاك من وزراء وكتاب وعمال، يجسِّمُون ذلك ويكبِّـرُونه انتقاما منه، لكونه كان مشتهراً ومُنكراً لأحوالهم، وما هم عليه من سوء السيرة، ونهب أموال الرعية، وقد رحل مرة إلى فاس بسبب ذلك، إلا أن كل ذلك لم يفل من عزمه، ولم يوهن من صرامته ولا جده، بل بقي على صدعه بالحق، لا يهاب في ذلك كبيراً ولا صغيراً، إلى أن لقي ربه، وذلك من أعظم الأدلة على إخلاص قصده، وحسن نيته. وقد ألف تأليفاً بين فيه الأسباب الموجبة لامتحانه( … ) أطلق عليه وسماه:” سيف النصر ” ).

ومع وجود هذه الصعاب التي ستحجز شعر الشاعر عن البحث عند باحثين آخرين، أبى الدكتور محمد رشيد السيدي إلا أن يختار كتابته عن هذا الشاعر أولا انطلاقا من المادة الباقية من أشعاره؛ سواء منها ما يدرج في المديح السلطاني، أم في ختمياته الشعرية التي لها علاقة بالزهد والتصوف.. وما سيتوج هذا المنحى في الكتاب أن المؤلف تناول بالدراسة والتحليل رائية الشاعر المكونة من ستة وأربعين بيتاً جمعت بين غرضي الرثاء والمدح في مناسبتين وفي وقت واحد؛ أي أثناء وفاة السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمان الرابع وتولي ابنه مولاي الحسن الأول التي مطلعها:

فلله قـرص الشَّمْـسِ غَيَّبَـهُ الثَّـرَى وعَـقَبَ شمسـاً لا تُشَـبِّهْ بهَـا بَـدْرَا

فقد تناول المؤلف هذه القصيدة بالدراسة والتحليل- بعد ضبط مناسبتها وعدد ما تجمع لديه من أبياتها نقلا عن كتاب” البستان الجامع للشاعر – من زوايا دلالية وفنية وجمالية؛ عرض في الجانب الأول لما تضمنته القصيدة من معاني وأفكارفي ثلاثة مقاطع كثفت مضامين القصيدة:

المقطع الأول: خصه الشاعر لإبراز ما في القصيدة من تقابل في المحتوى يثير انتباه المتلقي إلى تداخل حدثين: وفاة السلطان محمد الرابع، وتولي ابنه مولاي الحسن الأول.

المقطع الثاني: تَضمَّن بعض صفاتي المرثي والممدوح على نهج الشعراء القدماء؛ أبرزها رمز الكيان السلطاني صفة( المجد ) على حد تعبير المؤلف.

المقطع الثالث: خُصَّ لتبيان هول واقع صدمة الفراق، وواقع حماس التحدي؛ تحدي الصعاب التي ستواجه السلطان الشاب!.

الجانب الفني والجمالي في القصيدة:

أما الجانب الفني والجمالي المؤسس لقاعدة الإبداع في هذه القصيدة فقد حصره المؤلف في مكونات إيقاعها الخارجي؛ بدءاً من الوزن العروضي؛ أي استعمال الشاعر لوزن الطويل ضرورة؛ لكونه ينسجم مع قدرة هذا البحر على سرد الأحداث، وملاءمته لاستجماع المعاني، ولانسجامه مع الحالة النفسية المضطربة للشاعر، وهو ما انعكس على بنية القصيدة النغمية والعروضية، معتبراً ما لحقها من الزحافات والعلل بمثابة تصوير لنفس الشاعر المتأرجحة بين الاضطراب والانقباض ونقيضيهما الفرح والانشراح انسجاما مع ما تعبر عنه الدلالة، أما القافية والروي فقد وجد المؤلف في القافية المطلقة وما تضمنته من حرف( الراء ) كروي تعبيراً من الشاعر عن الحسرة، وترسيخه مقومات الإيقاع الخارجي في النفس!

وتجاوز المؤلف هذا إلى دراسة أول مكونات الإيقاع الداخلي( التصريع )(4) وبين وظيفته الدلالية والجمالية والإيقاعية في استهلال هذه القصيدة، وفي توزيع خفي داخل ثنايا القصيدة لغاية أو غايات دلالية، ووقف عند ما ورد فيها من تشاكلات الصوت واللفظ أفقيا وعموديا من خلال ظاهرة التكرار الصوتي/الحرفي واللفظي وتأثير ذلك على الدلالة النصية، مما جعلها متناغمة موسيقيا، ومنسجمة في الموضوع، ولم يفته تحديد وظيفتها الإنشادية والنغمية لغاية الإقناع بتوزيعها على جناحي البيت الشعري( صدر – عجز ) في عدة نماذج من القصيدة.

ومما توقف عنده المؤلف دراسة المعجم الشعري للقصيدة حيث وجده يعتمد ألفاظاً تخدم موضوعها وغرضها، وصنفها في حقولها الدلالية، فوجدها محكومة بالتناقض والتضاد في التعبير عن المشاعر( الحزن، الهم ) – ( الفرح ، السرور )، وهذا ما أهل الشاعر للتمكن من لغته وتوظيفها بما يتناسب مع حالته النفسية، كما وقف عند تعدد حقول ألفاظ القصيدة المتناسبة مع القيم الدينية وغيرها، ومع أسماء الأماكن والأعلام، بعد هذا سينتقل الدكتور محمد رشيد السيدي إلى قراءة البنية التركيبية لقصيدة محمد بن إبراهيم السباعي فيجدها تتسم ببنية تركيبية تتسم بسهولة اللفظ، وانسجامها في التراكيب وتنوعها مما كان له أبلغ الأثر من الجانب الدلالي، وعلى مستوى التأثير في المتلقي؛ فالقصيدة قصيدة تعبير عن مشاعر الحزن والهم والفرح والسرور كما أسلفت، وهي تستدعي مشاعر أخرى كالصبر، أما الضمائر فهي في تعاقب وفق ثنائية ضدية؛ طرفها الأول: الزمان: الحاضر المتكلم:( أنا ) أي الشاعر باعتباره يعبر عن ذاته وعن أحاسيسه ومشاعره وأحاسيس ومشاعر قومه فهو الناطق باسمهم في كل حدث جلل مثل هذا، بينما طرفها الثاني: الزمان: الغائب( هو )؛ أي الملك باعتباره التحف الموت ونام نومته الأخيرة !

هنا سينتقل المؤلف إلى رسم ملامح الصورة الشعرية البلاغية البيانية في هذه القصيدة باعتبارها أداة أدت وظيفة التعبير والتزيين والتجميل؛ حيث تبرز قيمتها الفنية والإبداعية والوظيفية في مجموعة من الأبيات تنوعت صورها في القصيدة ما بين التشبيه، والاستعارة، والمجاز والكناية كما عند القدماء، بل إن الدكتور محمد رشيد ذهب إلى اعتبار الصورة الشعرية عند الشاعر محمد بن إبراهيم الذي انتشله وشعره من براثن النسيان والضياع بمثابة »نسيج تخيلي متميز « لما تضمنته الصورة عنده من إيحاء وتشخيص وتجسيم لمشاعره بخاصة، ومن صور تقابلية في وضعين متناقضين وسأعمل على أن أقف عند أحد تحليلات المؤلف لصورة شعرية من هذه القصيدة، مع التعليق عليها، وسأنتقي الصورة الواردة في المطلع:

فلله قـرص الشَّمْـسِ غَيَّبَـهُ الثَّـرَى وعَـقَبَ شمسـاً لا تُشَـبِّهْ بهَـا بَـدْرَا

فالمؤلف في هذا البيت يرى الشاعر »يفاجئُنا، في مطلع القصيدة بهذا التصوير المعبر عن حدث غريب، وذلك بتشبيه الفقيد بقرص الشمس التي غابت في الثرى، فهذه المماثلة بين الشمس والثرى، يفترض فيه الشاعر وقوع ما لا يمكن تحقيقه- وهو كذلك -، فهو يشعرنا بذوبان الشمس، واتحادها بالثرى، مما يدفع المتلقي منذ البداية إلى الغرابة، ويثير حفيظته، وذلك بزحزحة كيانه الشعوري. ولعله يقصد تحسيس المتلقي بالصدمة القوية التي تلقاها الشاعر لما علم بالخبر، كما أنه يريد أن يذكرنا بأن كل شيء إلى زوال، ولذا حاول استعظام الحالة، والنفخ في الواقعة، لكنه سرعان ما أشعل فتيلة الأمل؛ حيث يعقب ذلك بزوغ شمس تبدد ظلمة الحزن والكآبة، وتزرع روح الإحساس بالغد المشرق « (5)

إن تناول الدكتور محمد رشيد السيدي للصورة هنا وفي هذه القصيدة أبان لي عن مدى استيعابه لمكوناتها القديمة بفضل ما تجمع لديه من ثقافة بلاغية قديمة وحديثة مستفيداً في ذلك من الدراسات المؤسسة لجزئيات البحث وفق جهود نقاد عرب قدماء ومعاصرين أذكر منهم( عبد القاهر الجرجاني – السجلماسي – القاضي عياض – صلاح فضل- بشرى موسى صالح – نعيم اليافي ) مما جعل نظرته إلى الصورة الشعرية شمولية في كافة تجلياتها، وهي مما أكسبه قدرة على التفصيل بين أجزاء الصورة وربطها ربطاً دلالياً، وربطها بالحالة النفسية للشاعر الذي امتلك طاقة قوية وقدرة على الصياغة الفنية من خلال عامل التصوير الفني بشكل مغرق في الخيال؛ الشيء الذي كان له أبلغ التأثير على المتلقي.

وأنهى المؤلف هذا الكتاب بمجموعة من أشعار الشاعر في أغراض: الحكمة، والمدح بنوعيه: النبوي( المولديات )، والسلطاني، والرثاء، والوصف، وبثبت جيد لمصادره ومراجعه في الكتاب، ففهرس محتويات الكتاب.

خـتــامـه مــسك:

إن ما بذله الدكتور محمد رشيد السيدي من جهود- مشكورة – في هذا الكتاب وفي رديفه كتاب” الشعر المغربي الصحراوي فيما بين القرنين 19 و 20 القبيلة السباعية بحوز مراكش أنموذجاً ” لمما يعضد جهوداً قام بها مجموعة من الباحثين؛ وهي وإن كانت لا تكفي لنفض الغبار عما اعتلاه الغبار؛ فهي تمهد بالشروع في مقارعة عوامل الضياع والنسيان، وبحضور هذا الإشكال في اهتمامات جملة من الباحثين الواعدين بنبل العطاء للربط بين شعر شعراء الصحراء وشعر شعراء حاضرة المغرب.