آخر الأخبار

مرايا عمياء: طوبى لشجرة التوت

سعد سرحان 

ثمة شعراء يكتبون قصائدهم على أوراق التوت ، ثم يقدمونها هدية إلى قبيلة من دود القز لتحولها ، بحكمتها الخاصة ، إلى حرير أخضر ما إن تغادره الفراشات إلى مصيرها الضوئي ، حتى يتحول بدوره إلى رداء يليق بيناعة الشعراء . وثمة آخرون – بفظاظة نادرة- يسقطون عنهم أوراق التوت الأخيرة التوت التي تعرت لأجلهم جميعا . فيبدون عراة حتى من جلودهم تماما مثل دود الأرض ، فطوبى لشجرة التوت التي تعرت لأجلها جميعا .

ثمة شعراء سطحيون يعتصمون بحبل اللغة المطاطي ، عسى أن تبدو قصائدهم عميقة . فإذا طفحت الدلاء ، انقطع الحبل وتوقفوا عن الكتابة : ثمة دائما أراض لا تحتمل الماء .

ثمة الشعراء البراقع : غالبا ما ينتهون إلى خرق كالحة .

وثمة الشعراء الأوسمة ، أولئك تظل قصائدهم وأرواحهم ترفرف عاليا كأحلام ترفرف .

البرقع عورة الجسد .

الشعر وسام الروح .

تمة شعراء يعيثون عواء على بعد فراسخ من ضواحي الشعر .

ثمة شعراء يغدقون من فيروز الروح على قصائدهم فإذا هي مرصعة بعناية كأي سماء أخرى ، وثمة آخرون يغدقون من أورامهم ليس على القصائد وحسب ، وإنما على الحياة أيضا ، تلك التي لم تعد تطيق أن يحيوها دون أن تكون متديرة بما يجيرها من صديدهم .

ثمة شعراء كلما انفتحت شهيتهم على مصراعيها أمام كعكة الوهم انغلق من حولهم كل شيء وانبرؤا يشحذون سكاكينهم وشوكاتهم : الشوكات للكعكة والسكاكين- طبعا – لتهديد بقية المدعوين في حال حضورهم ، أما الحفل – وهذا هو المهم – فإن الجميع يعلم أنه لن يقام أبدا .

ثمة شعراء وثمة كتابة يتممت شكلها شطر المقطع فالشذرة . القصائد القصيرة جدا ، وشذرات الشعر التي يذرفها الشعراء من ألم لآخر ، يمكن اعتبارها بمثابة سكرات الشعر . كلمة سكرات هي زلة قلم ربما التقطها أحد تلامذة كوستاس اكسيلوس النجباء وأهداها لأستاذه عقب أحدى محاضراته القيمة عن موت الشعر . لنستبدل إذن كلمة سكرات بكلمة لهات ، ذلك أن الشعر قد يتعب لكنه قطعا لا يموت .

إذا كانت الغابات والأدغال هي ما يمكن أن نشبه به تلك الكتابات الكبيرة والكثيفة ذات الأغصان المتشابكة والجذور الرفيعة ، والتي تنفل الأوفياء لأمكنة وأزمنة بعيدة عن جذوعها ، فإن الحدائق هي التوصيف الأنسب لأجمل ما يكتب الآن من قصائد ، الحديقة هي إحدى المرايا التي تعت بصدق نادر ثراء المخيلة والعين ، درجة العناية والأناة .

الحاكورة ، أيضا ، مرآة .

ثمة حدائق صغيرة لا تتعدى مساحتها أحيانا مترين مربعين ( يستحسن أن تكون شجيرة الليمون في الوسط تماما ) وثمة الميكرو حدائق المعروفة بالأصفر وهي رغم صغرها – وربما بسببه- لا تكون في أبهى حالاتها إلا وقد تكللت بشتلات خاصة . تشبيه الكتابة الشعرية الجديدة بالحدائق والأصص لا يخلو من مجازفات ذلك أنه ينفى عنها ، لدى البعض ، صفتي الكثافة والعمق . فلا كتابة الحدائق بكثافة الأحراش التي تتطلب مغامرة الدخول إليها كلابا مدربة على اقتفاء المعاني ، ولا كتابة الأصص تملك جذورا ضاربة في الأعماق ، حيث الفه الحجري ينتظر ما يدغدغه … مهما يكن من أمر … إننا لا نخجل حين نحضن أصصنا الوديعة ونضعها بعناية أطراف الغابة ، فلا الكثافة ولا الأعماق … إنما الأنساغ ما يهم الأصص .