آخر الأخبار

مرايا عمياء : القارئ الكبير

سعد سرحان

يدين الأدب بالكثير من بريقه إلى القراء . ولأن هؤلاء ، بدورهم ، طبقات يصعب حصرها في كتاب ، فأحرى في ورقة كهذه ، فإنني سأكتفي بالوقوف قليلا عند صنف واحد منهم : القارئ الكبير . لقد وجد هذا القارئ في كل العصور وفي مختلف الجغرافيات . ففي زمن الشفاهة ، حين كان أسلاف الكتاب في كل واد يهيمون ، كان للقراء أسلاف يقال لهم الرواة . إليهم يعود الفضل في خلود الكثير من الأسماء والأنساب والنصوص ، كما يعود إليهم في استمرار النسل الأدبي . ذلك أن معظمهم كانوا يتحولون بدورهم إلى شعراء يروى عنهم … فاتسع بذلك ديوان العرب . حين استتب الأمر للكتابة ، وصار القراء قراء فعلًا ، ظهر القارئ الكبير . وهو ذلك الذي ، لفرط ما يبيت بين الكتب ، كاتبا فينسخ بذلك تجربة سلفه الراوي . وإذا كان هذا النموذج يذكر على الفور بالجاحظ ، فإنني أفضل أن أذكر بمثال آخر ، غير بعيد في الزمان والمكان ، مثال فريد من نوعه هو ابن جني . فحين قال المتنبي : اسألوا ابن جني فهو اسألوا ابن جني فهو أعرف بشعري مني ، كان يرتقى بالرجل من قارئ كبير لشعره إلى العارف الأكبر به . وهي شهادة لا تضاهى ، لا لأنها جاءت من « خير من تسعى به قدم » ، وإنما لأن المتنبي لاحقا كأهم جبل في تضاريس العربية . الأرجح أن ابن جني كان عبقريا ، فوحده عبقر ( génie ) أعرف من الشعراء بشعرهم .

خلال القرن الماضي برز في الثقافة العربية هرمان من مصر : العقاد حسين ، الأول من دون شهادات تشهر والثاني من دون عيون تبصر واذا غيره في عيون الشعر الجاهلي ، فإن ذاك استطاع ، بفعل القراءة ، أن . كان هذا قد عوض البصر بالبصيرة ، حتى أنه رأى بعيون عقله ما امه الهوة السحيقة بين ابتدائيته ودكتوراه العميد ، فلن يعرف اللاحقون أيها خريج السوريون . OO DUAL CAMERA HUAWEI nova 3i لقد من صاحب المكتبة العناوين التي اقتناها ليقرأوا نفس ما قرأ . صاحب – « العبقريات » كان عبقريا ، قارئا وكاتبا ، وكم أتمنى أن يصدر كتاب بعنوان « عبقرية العقاد » . وفي مغرب اليوم ، لست أعرف قارئا أكبر من عبد الفتاح كيليطو ، الذي تجعلنا مؤلفاته الفريدة نقرأ بعيونه ادبنا القديم ، فنعيد النظر في قراءتنا القديمة الكتابة من لغة إلى أخرى ، يترجم كيليطو القراءة من لغة السطح إلى لغة له . فالرجل ليس قارئا كبيرا فحسب ، بل إنه كاتب كله قارئ . فكما تترجم الأعماق ، من لسان الزبد إلى لسان المتحار ، فإذا في كل فقاعة لؤلؤة . وبعيدا عن أرض العرب ، أذكر بأن « الأرض اليباب » للشاعر الكبير ت . س إليوت ، ما كان لها أن تعتبر قصيدة القرن العشرين من لدن معظم النقاد ، لولا القارئ الكبير عزرا باوند الذي حذف من صيغتها الأصلية زهاء الثلثين . أما رواية القرن العشرين ، وأقصد « البحث عن الزمن المفقود » لمارسيل بروست ، فقد رفضت نشر الجزء الأول منها لجنة يرأسها أندري جيد ، الذي سيحصل لاحقا على جائزة نوبل للآداب ، سنوات بعد ذلك ، سيرسل جيد أصالة عن حتی رسالة اعتذار إلى بروست . وكأن الكاتب الكبير يعتذر ونيابة عن القارئ الصغير الذي كانه وهو يرفض نشر عمل عظيم . الكتب الأكثر مبيعا ، وهي كذلك بفضل العدد الكبير من قرائها ، تحتاج أحيانا إلى قارئ كبير . فالكاتبة جي . كي رولينغ وضعت مخطوط الجزء الأول من « هاري بوتر » لدى أكثر من دار للنشر دون جدوى ، إلى أن دخلت يوما ابنة ناشرها الحالي إلى مكتب أبيها ، فما إن قرأت صفحات منه أجزاء وترجمة وأفلاء حتى ألحت على نشره . فكان ما كان منه ومما تلاه من ونجاح غير مسبوق . لقد نجحت الفتاة الصغيرة في ما فشل فيه الكاتب الكبير أندري جيد . فطفلة الناشر ابنة جنية حقيقية ؛ فهي أعرف من أبيها بنشره لا يقبل القارئ الكبير تعريفا نهائيا : فهو القارئ يقرأ الكتاب كأنه يكتبه . HUAWEI nova 3i DUAL CAMERA وهو القارئ يبعث الحياة في كتاب دارس . وهو القارئ يقرأ الكتاب الواحد أحسن مما يفعل آلاف غيره . الأوا وهو القارئ الذي تعلم الكتابة في العشرين من العمر ، فلما أصدر كتابه ترجم إلى أكثر من عشرين لغة . وهو القارئ الذي قرأ مكتبة بابل . وهو ، ليس أخيرا ، القارئ يقرأ الكتاب بقوة .

لذلك ، فإن هذه الورقة ، وهي تقدم بعض ملامح القارئ الكبير ، لاحمد كونها مساهمة في رسم صورة قلمية له ، طالما أنه لا يملك وجها قابلا للوضوح .