آخر الأخبار

لفوسفاط الشريف… تسميد العقول وتخصيب النبوغ -1-

سـعـد سـرحـان.

في ستينيات القرن الماضي، والآلةُ الحاسبة لم تعرف بعدُ الطريق إلى المغرب، لم يعدم المغاربة من نُبغائهم من ينوب عنهم في الحساب الدقيق وإعلان النتيجة السارة؛ ذلك أن العشرة دراهم، وهي عَهْدئذ ورقة نقدية بطولٍ وعرض، جاءت نصيبَ الواحد منهم يوميًا من مداخيل الفوسفاط وحده.. تلك الورقة التي كانت، بمرور العقود واحتساب باقي الثروات، ستتضاعف حتى يُغني مدخولها عن العمل. فلو كان المغاربة يتوصلون بسمكتهم اليومية من بحر الفوسفاط، لكانت أقعدتهم لا عن الصيد فقط، بل عن كل سعيٍ. ولنا أن نتخيل شعبًا لا يسعى.لم يكن الفوسفاط يُذكر في طفولتي إلا مسبوقًا بلقبه الشريف، فكان ذلك يُضفي عليه عندي هالةً كتلك التي يُضفيها الطربوش الأحمر على أحد جيراننا.أما حينما أصبحتُ في سن السينما، فقد صار الفوسفاط عندي مرهوب الجانب، إذْ أين طربوش جارنا من قبعة الشريف في أفلام رعاة البقر.صحيح أن الألقاب في المغرب تُطلق على عواهنها، فنجد على سبيل التذكير: الماريشال قيبو، والحاج مازار، والقايدة طامو، والجنرال فاخر، والشريف بين الويدان… مثلما هو صحيح أيضًا أن حامل لقب ما قد يسعى، في حياة موازية، بما يُناقضه تمامًا. سوى أن الفوسفاط ليس شخصًا طارئًا فلا محالة زائل، وإنما هو بحرٌ غابر أورث البلاد غير قليل من الجُزر النفيسة.ففي واحدة من تلك الجزر، ظهرت، منذ سبعينيات القرن الماضي، بعض حوريات البر. كن أجسادًا بلا عظام تقريبًا. وكنا، بشغفٍ، ننتظر ظهورهن على الشاشة، فلا يفعلن قبل أن يرِن اسم البلد في مسامع العالم. وإذ تتقدم الواحدة منهن إلى المِضمار، فلكي تكونَنَا جميعًا، نحن الذين لم نكن نملك لها سوى النبضِ مضبوطًا على حركاتها. أفكر في كريمة ومريم ونعيمة وسواهن ممن يرتبطن في الأذهان لا بالجمباز فقط، وإنما بالفوسفاط أيضًا. كيف لا، وهن بنات اليوسفية، المدينة التي ما مررتُ بها ذِكرًا إلا ألقيتُ تحيةً خضراء شاسعة على الوساطين مبارك وعبد القادر، الفلاحيْن الرائعيْن اللذيْن منذ عقود وهما يُخصبان أراضي اللغة بفوسفاط المخيلة.