آخر الأخبار

لـفـوسـفـاط الـشـريـف تسميد العقول و تخصيب العقول- 4 –

سعد سرحان

وقبل أن أغادر ثانوية التميز ببنجرير، أشير إلى أن المغرب طاعنٌ في النبوغ. ففي سنة 1948، تخرج من بوليتكنيك باريس أول مغربي، وهو رجل الدولة المعروف السيد محمد الدويري.لم يكن التفوق وحده ما سمح للفتى بذلك، فأقرانٌ له في مجاهيل البلاد، زمانئذ، كانوا لا يقلون عنه ذكاءً، ومع ذلك فقد تخرجوا، من الأقسام التحضيرية للحياة، فقط رعاةً وفلاحين وموظفين صغارًا وحرفيين ومُياومين… ولهذا تحديدًا، يُشكر لرعاة التميز أن عبّدوا أمام أحفاد أولئك طرقًا سيارة نحو أعالي الحياة، التي أين من شِباكها تلك السمكة، سمكة الفوسفاط التي أسالت لعاب الأجداد.

أما جامعة محمد السادس متعددة التخصصات، فقد تم تدشينها سنة 2017 في قلب المدينة الخضراء أيضًا. وهي مؤسسة مكرسة للبحث والتجريب والابتكار. لها شراكة مع ألمع الصروح العلمية في فرنسا وأمريكا وكندا. وسعيًا منها إلى تطوير العديد من المدارس والمعاهد الوطنية، أنشأت في بعض المدن المغربية مختبراتٍ حيةً وفضاءاتٍ تجريبيةً تُمكن المجتمع العلمي من اختبار الحلول المبتكرة في المجالات المستقبلية على أرض الواقع.الفلاحةُ والبيئة، الموارد المائية والأمن الغذائي، التصنيع المستدام، الحَكامة، التكنولوجيا الحيوية، الطاقات المتجددة، فيزياء التربة، الهندسة البيوطبية… إنما هي فقط بعض العناوين الكبرى للتخصصات الدقيقة والجوهرية التي انبرت لها جامعة محمد السادس ببنجرير. ولأجل ذلك، هيأت لها بِنيات تحتية لا تقِل في شيء عن مثيلاتها في الجامعات الدولية المرموقة.ويكفي أن نذكر من ذلك أن مركز الطاقة الخضراء بها تم إنجازه على مساحة 8 هكتارات، وأن بها أكبر مركز بيانات في إفريقيا، يَشْغَل ألفيْ متر مربع من القاعات المجهزة بأحدث التجهيزات المعلوماتية، وهو بِطاقةٍ حسابية تسمح له بإنجاز ثلاثة ملايين مليار عملية في الثانية الواحدة، وبسِعة تخزينية تصل إلى 8 آلاف تيرابايب.
مؤسسة أكاديمية، بهذه التخصصات الدقيقة والبِنيات المتطورة، لا يمكن ولوجها من دون تأشيرة؛ فتأشيرتها هي التفوق الدراسي طبعًا. ولأن هذا ليس حكرًا على طبقة اجتماعية دون أخرى، فإن أبناء الميسورين يدفعون بالعملة السهلة، تمامًا كما كانوا سيفعلون بالعملة الصعبة لو أنهم اختاروا طلب العلم ولو في الصين. أما غيرهم، فقد أحدث لهم المكتب الشريف للفوسفاط مِنَحًا دراسية تسمح لهم بمواصلة أحلام اليقظة.وإذا كانت ليديكس تحقق نتائج مدهشة بأطر مغربية وتلاميذ مغاربة، فإن جامعة محمد السادس اقتضى تعدد تخصصاتها وحداثة بعضها الانفتاحَ على أطر لامعة من مختلف الجنسيات، مثلما اقتضت رؤيتها وتوجهها نحو القارة الأم استقطابَ العقول الإفريقية الفذة لاستكمال الدراسة بها. وإنه لمن الحكمة حقا أن يدرس أبناؤنا مع أبناء جيراننا في العمارة الإفريقية، فمن شأن ذلك أن يعمق العلاقات بين الأسر، ويفتح الأبواب على بعضها، فيصير لمائدة هذا البيت نصيبٌ من مطبخ ذاك.
ومثلما جرى الحديث في ستينيات القرن الماضي عن حصة كل مغربي من الثروة الوطنية الأولى، جرى الحديث في الثمانينيات منه عن نسبة الأورانيوم في الفوسفاط، فشط خيال بعضهم بعيدًا، فرأوْا المغرب على عتبة نادي الدول النووية، فإذا هو مرهوب الجانب كأي شريف يحمل قنبلة لا مسدسًا فقط.أما عندي، فحَسْبُ الفوسفاط شرفًا أن يُسمد الحقولَ، فيضاعف الإنتاج ويجعل الأخضر يكتسح القاحل، وأن يسمد العقولَ، فإذا هي أكثر إشعاعًا من الأورانيوم. فإذا كان النصف المليء من الكأس يروي عطشي، فلماذا أهتم للنصف الفارغ؟
وأما بعد، فإنني أتألم حقا، وأنا أسمع عن مصنع يحترق هناك، وعن معمل يغرق هنالك، وعن حافلات وطنية الصنع تُخرب، وعن طرقاتٍ سيارة تُقطع، وعن خرافاتٍ تسعى، وعن فظائع تُرتكب بالجُملة… وأحسب ذلك كله من الأعراض الجانبية للتفقير والتجهيل؛ لكنني لا أستطيع إخفاء سعادتي الغامرة، ولا أن أمنع جوارحي من التصفيق لمغرب يترصع بالموانئ والمطارات والأسواق الممتازة، ومختبرات الأدوية ووفرة الغذاء والطرق السيارة، وسوى ذلك من معالم الحضارة وآثار النعمة… فهذه الثمار العملاقة ما كان لها أن تَيْنَع لولا أنساغ الثروة والتعليم.لذلك، أتمنى فقط أن يكون الفوسفاط قاطرةً لغيره من الثروات، فتُنشئ، هي الأخرى، جامعاتٍ ومعاهد بمواصفات دولية، وتصرف مِنَحًا لصغارِ كمال الودغيري ومنصف السلاوي ومريم شديد ورشيد اليزمي وأسماء بوجيبار وحسناء الشناوي ورشيد عمروس وعبد الجبار المنيرة، وسواهم ممن سيشكلون صورتنا أمام العالم في المقبل من السنوات.