آخر الأخبار

كـفـر نـاعـوم وقـمـيـص لـطـيـفـة أحـرار – 1 –

سـعـد سـرحـان

جسر أسود بين كتلتين ناصعتين ( هل هما الوجود والعدم؟). جسر ينثني أو يتداعى أو ينثني.. لكنه في كل مرة يستعيد أوده. جسر يدب فيه الأنين فيتوكأ على رائه فتستحيل دالا. جسد يحشرج أو يهذي. لكأنه يسدد للحضور ما فاته من احتضار قبل أن يهبّ واقفا وقفة جسد واحد، فإذا هو وسط الركح، أقصد في قلب البرزخ حيث القيامة على بُعد كتاب. لم يكن الجسد أعزل. كان مسلحا بأصواته، تلك التي تصدر عن كل خلية فيه. فقط، على العين أن تصيخ النظر إلى كل حركة وعلى الأذن أن تمعن السمع في الخفيض من الكلمات. لم يكن الجسد أعزل: كان ثمة الضوء، الصوت، الموسيقى، الملابس، الغناء، الشعر… وثمة نحن: مئة ونيف فوق الركح وليس، كما يفترض، أمامه في قاعة العرض. كنا الجمهور وقطع الديكور الحية. كنا جمعا من المعزين انتظرنا إكرام الميت فإذا نحن نعزّي أنفسنا في البرزخ، فيما ظل عشرات آخرون خارج القاعة بسبب ضيق الركح أو، ربما، بسبب تأخر النعي، نعي جثة في منتهى الأنوثة الحياة. هكذا ابتدأ العرض: جسد مخلوع يتوق إلى عرشه وروح زهق منها الجسد فجاءت تلتمسه بما ملكت من أنفاس. جسدٌ يتسوّل روحه وروحٌ تتوسّل جسدها. يحضر الجسد بكامل عدته : الجسد، فيما تحضر الروح بكل سكرات الحياة : الضوء، الشعر، الألوان، الحركات، الغناء… وغير ذلك من اللغات. وعلى امتداد العرض يتبادلان الإهاب من اللباس إلى الكفن إلى اللباس…هكذا انتهى العرض : ارتدت الروح جسدها وخرجا معا من قاعة العرض إلى حيث تنتظرهما الحياة، تلك التي يحترفانها مدى الحياة.
*****
أقول العرض وأعني ‘كفر ناعوم’ للفنانة لطيفة أحرار، حيث الشعر لُحمة والمسرح سداة.هذا الاختيار، وحده، يستحق التحية. فبعد أن خلدت الموسيقى أكثر من قصيدة مغربية (راحلة، القمر الأحمر… وقبلهما روائع من قصائد الملحون)، وبعد أن أسفر تعاون التشكيليين والشعراء المغاربة عن كتب فائقة الجمال وعن حقائب فنية كثيرة، وبعد أن اشتغلت الفنانة ثريا جبران على ‘الشمس تحتضر’ للشاعر عبد اللطيف اللعبي… ها هي لطيفة أحرار تتجرأ على ديوان ‘رصيف القيامة’ للشاعر ياسين عدنان فتخرجه عرضا مونودراميا لعله الأول من طرازه في المغرب، وربما في العالم العربي أيضا، ذلك أن الذين شكّلوا مسرحهم على قماشة الشعر إنما فعلوا ذلك بمسرحيات شعرية وليس بدواوين، ولنا في شوقي وعبد الصبور خير مثالين. جرأة لطيفة أحرار كانت مركبة. فمن جهة، اشتغلت على ديوان شعر في الوقت الذي صار فيه الشعر المغربي سقط متاع في الثقافة المغربية رغم حضوره اللافت في المنصات العالمية. ومن جهة أخرى، كل الذين حضروا العرض تم إدخالهم من الكواليس، فاقتعدوا الركح أمام دهشة قاعة العرض التي ظلت فاغرة كراسيها. وبذلك تكون لطيفة والذين معها قد استغنوا أصلا عن تشييد الجدار الرابع الذي كثيرا ما يتعرض للتكسير تيمّناً بالسيد بيرتولد بريخت. ومن جهة ثالثة، وفي أحد المشاهد، تخرج الشخصية من الثياب إلى الكفن فتبدو عارية إلا من ملابسها الداخلية، وفي ذلك غير قليل من رفع الكلفة بينها وبين الحضور الذي افترضته حميما. لم تكن لطيفة أحرار تعدم حيلة إزاء هذا المشهد، إذ كان يكفي أن يسلط عليها الظلام في أثنائه فلا تظهر إلا وهي في لباس آخر، كما كان بإمكانها أن ترتدي ملابس داخلية بلون بشرتها فتظهر عارية دون أن تكون كذلك… سوى أنها لم تفعل لضرورة مسرحية أهل المسرح أدرى بها.هكذا وجدت لطيفة أحرار نفسها في دائرة الطباشير المغربية. فالنقع الذي أثارته الصور المأخوذة من المشهد المذكور غطى على كامل العرض بكل اجتهاداته وجدته فلم يبق ظاهرا منه إلا ما ظهر من جسدها، بل إن هنالك من أحال المشهد ذاك على الستربتيز، مذكرا إيانا بإحالة العقاد قصائد حجازي على لجنة النثر، مثلما يذكر بأن المغرب، في إحدى طبعاته القديمة، عرف أطرف بكثير مما يحدث مع لطيفة أحرار. ففي الكثير من الأحياء الشعبية، كانت الفتاة إذا وضعت ساعة في معصمها تعتبر خارجة على الطريق، ذلك أن الساعة كانت مرادفا واضحا للمواعيد الغرامية. وبمثل هذا القدر من الضحالة، لو قيض لنازك الملائكة أن تظهر بيننا لكان السلف قد أحالها على أقرب مستشفى بتهمة الكوليرا مفوّتا على الخلف قصب السبق، ذلك الذي صار نايا تحمل إلينا أصداءه رياح الشرق.