آخر الأخبار

عــلــبــة خــلـود الإنــســان 

سعـد سـرحـان

لقد احتاج الإنسان منذ غابر الزّمان إلى تداول البضائع وحِفظ المُؤَن: فاجترح لذلك أدواتٍ تساعدُه، فكان الكِيسُ والخُرْجُ، الصّندوق والدّن، الصّاع والزِّق، الدَّوْرق والقَدَح وهلمَّ جرارًا…وهي الأدوات التي تطوّرت عنها معظم أشكال التّعليب والتّلفيف الحديثة، بعد أن استفادت ممّا أصبحت تتيحه صناعة الورق والبلاستيك والزّجاج والمعادن وفنون الطّباعة وتقنيّات التّصوير.وإذا كان التّعليب، حسب البعض، مجرّد حيلة: حيلةِ الشّكل التي غالبًا ما تنطلي على المضمون، وحسب البعض الآخر ضرورةً أَمْلتها تطوّرات الحياة المعاصرة، فإنّه عندي أحد التجلِّيات البارزة لما يمكن أن نسمّيه عبقريّة السوق، تلك التي تفتّقت أيضًا عن الإعلانات والتّخفيضات، وعارضات الأزياء والمزادات العلنية، وقروض الاستهلاك وتسهيلات الأداء، وغيرها من أساليب التّسويق وحوافز التسوّق.لا يعدو الجانب المادّي لعبقريّة السّوق هذه، والذي لا يخفى على أحد، أن يكون الجزء الظّاهر من جبل الجليد، فالجوانب الأخرى أوسع من أن تحيط بها ورقة كهذه، ذلك أنّ الجانب الصّحّي وحده قد يتطلب التطرّقُ إليه أكثرَ من كتاب.أمّا بخصوص الجانب الجمالي، وهو الأثير لديّ، فيكفي أن أذكِّر القارئ الكريم بذلك الإعلان الذي يرشح شعرًا، وبأنّه امتلك مرّة، أو شاهد على الأقل، قارورة عطر أجمل من كل أيقونات العالم، وبأنّه لابدّ رأى حُقًّا للمجوهرات يفوق بذخًا كل توابيت الفراعنة. أما ألواح الشوكولاتة والبسكويت، فلو قُيِّض لأحد المستكشفين القدامى العثور على إحداها فلن يتوقّع، قُبَيْلَ فضِّها، أقلَّ من سبيكة ذهب.
إنّ إطالة مدّة الصّلاحية، كنوع من التّخليد، هي إحدى الغايات من التّعليب والتّصبير والتّلفيف… وهي الغاية التي توخّاها الإنسان على مر العصور. فقدماء العرب تفنّنوا في تعتيق الخمور. وأهل مَرْوْ، والعهدةُ على الجاحظ، برعوا في حفظ الأغذيّة لأسباب تتعلّق بالبخل طبعًا وليس بالصّحة. أمّا المِصريّون فقد كانوا يحنّطون موتاهم كسعْيٍ منهم لتقييد الجسد بعد إفلات الرّوح. ولعلّ جلجامش هو أشهر من سعى لتخليد نفسه، ولقد كان له ذلك رغم خذلان عشبة الخلود.إنَّ نزعتَيْ التّخليد والخلود قد لازمتا الإنسان منذ فجر الوجود. وإليهما يعود الفضل في ظهور الكثير من النفائس التي ترصّع جنبات العالم: التماثيل، الصّروح، الكتب، اللّوحات، والاختراعات… كما يعود الفضل إليهما في ظهور بعض المعتقدات كالتناسخ وحلول الأرواح.لم يكن القادة والعظماء عبر التاريخ ينتظرون أن تزهق أرواحهم لتحلَّ في أجساد أحَطَّ ولا محالة فانيّة، لذلك عمدوا إلى تخليد أجسادهم بتعليبها في تماثيل وحدها عوادي الدهر تقرّرُ مدّة صلاحيّتها. ولعلّهم بذلك قد رسّخوا معتقدًا صلبًا صلابة الحجر اسمه: حلول الأجساد.ولمّا كان حلولٌ كهذا غير متاحٍ للجميع سواء تعلّق الأمر بالنُّصُب التّذكارية أو اللّوحات أو البورتريهات، فإنّ البشريّة انتظرت دهورًا قبل أن يلوح العلم (وهو أعدل من الفنّ) حاملًا آلة التصوير وكاميرا الفيديو متيحًا للجميع أن يخلّد نفسه كما يشاء.هكذا صار بإمكان أيّ كان أن يتصفّح أَلْبومَ صوره أو يتفرّج على نفسه في شريط فيديو منتشيًّا بحصّته من الخلود، غير مُدركٍ، على الأرجح، أنّه نجح في الزَّجِّ بأعتى مارِدَيْن، الزمانِ والمكانِ، في قمقم الصّورة.وإذا كانت نزعة الخلود هي ما جعل الإنسان ينجح في تعليب الزمان والمكان، فإنّ نزعةً أخرى لا تقلُّ سطوةً، هي نزعةُ الامتلاك، قد جعلته ينجح حتى في تعليب العناصر الأربعة: فالأصص نوع من تعليب التراب وامتلاك جزء من اليابسة ولو في شرفة في أيِّما طابق.والأكواريوم نوع من تعليب الماء وامتلاك حصّة من البحر بأجمل أسماكه. والأقفاص نوع من تعليب الهواء وامتلاك نصيب من ريش الحرية وزقزقة الأعالي. أمّا النار الشّرسة فقد تمّ تدجينُها منذ القديم، وهي الآن هاجعة في الولاّعات وأعواد الثقاب.