آخر الأخبار

( عام الفوت ) – 2 –

سعد سرحان 

( ساحة غينيس)

لأزيد من خمسين ساعة متواصلة، تحوّلَت السّاحة إلى شهرزاد من صمت وهواء، تصغي إلى شهريارات العالم وهم لا يكفّون حتى وقد أدركهم أكثر من صباح. فدخلت بذلك كتاب غينيس للأرقام القياسية، هي التي أُدرجت قبل سنوات، بمساعٍ نبيلة من خوان غويتيسولو، أحد أبنائها الأَخْياف، تراثًا إنسانيًّا لا ماديًّا من طرف اليونيسكو، فشَكَلَت هكذا موضوعَ الشّفاهة شكلًا تامًّا.

هذا الحدث شهدته ساحة جامع الفنا، خريف هذا العام، بمناسبة المهرجان الدولي الثاني للحكاية.

رقم قياسي عالمي لساحة عالمية في مدينة عالمية هي الاسم الأصلي للبلد… ومع ذلك، لا خبر. وكأنّ على الساحة أنْ تحكي حكايتها بنفسها، حكاية بعنوان: خمسون ساعة وساعة.

ولنا فقط أن نتساءل:

ماذا لو كانت ساحة جامع الفنا ملعبًا كبيرًا لكرة القدم؟

وماذا لو تعلّق الأمر، وقد تعلّق سابقًا، بكتاب غيريتس للرواتب القياسية؟

(لوكليزيو)

في عام الفوت هذا، حلّ بمراكش ضيف من عيار 24 قيراط: لوكليزيو.

زيارةُ الرجل للمدينة، بصرف النظر عن مناسبتها، حدثٌ في حدّ ذاته، فما بالك بمساهمته في مهرجان الكتاب الإفريقي، الإفريقي وليس الفرنسي، بأشهر ساحة في البلد.

لوكليزيو، هنا والآن، كان فرصة للإعلام المغربي كي يتسلطن، وقد اجتمعت له في الرجل الذرائع والأسباب. فهو ليس فقط أحد حمَلة جائزة نوبل للآداب، وإنّما أيضًا صاحب أهم كتاب عن الصحراء، كيف لا وهي حَمَاتُه التي أنجبت له من رحمها في الساقية الحمراء رفيقتَه في الحياة والكتابة: جميعة.

على ذكر الصحراء، ينظّم المغرب، مرّة كلّ سنة، مباراة في كرة القدم في أحد ملاعب أقاليمه الجنوبية، فيحتشد لها الإعلامْ بالكاميرات والأقلامْ، ويتّخذ منها الذريعة والدريئة…

زيارة لوكليزيو التي قد لا تتكرّر، كانت مناسبة لهذا الإعلام تحديدًا كي يوجّه الرسائل تلو بعضها إلى حيث تشير بوصلة الأحداث في غير ما سياق. سوى أنّه، بكلّ أسف، لم يفعل، ففوّت على مغناطيسه مُصالحة الذهب.

(غيض وفيض)

ثمّة مغربٌ يلعبْ

وثمة مغرب يكتبْ

فللمغرب أقدامٌ وأقلامْ.

عَقِب كلّ تظاهرة قارّية أو استحقاق عالمي، يظهر اسم هذا اللّاعب المغربي أو ذاك في هذه التشكيلة أو تلك، فنفرح لأجله كلّ الفرح، وكأنّه نحن جميعًا. أمّا إذا كان على المغاربة أن يصوّتوا لفائدة لاعب مغربي ما كي ينال جائزة معيّنه، فإنّهم يفعلون بهمّة من سيفوز شخصيًّا…

وبين عام وآخر

يفوز هذا الفريق

أو ذاك المنتخبْ

بكأسٍ أو لقبْ

وهذا غيض من قدم اللّاعبْ

فماذا عن فيض قلم الكاتبْ؟

أمّا لماذا فيضُ هذا وغيضُ ذاك، فلأنّ للكتّاب المغاربة، أيضًا، صولاتٍ وجولاتٍ في ميادينهم، يحفرون بها اسم البلد عميقًا في تاريخ الأدب والفكر. ولعلّ جردًا سريعًا للجوائز والتّكريمات الدولية والعربية التي حازتْهَا أقلامُنا، في أكثر من فرع وبأكثر من لغة وفي مختلف الجغرافيات، أن يعطي فكرة واضحة عمّا أذهب إليه. ذلك أنّ عددها في سنوات قليلة يساوي عشرات أضعاف ما جنَتْه كرتُنا من كؤوس وألقاب طيلة تاريخها الطويل.

ليس عزاءُ الكُتّاب فقط في كون الأقلام أذكى من الأقدام، وإنّما كذلك في كونهم لا يعتزلون، شأن لاعبي كرة القدم في سنّ مبكّرة، ومنهم حتى من يعمِّر، أبدَ الدّهر، بعد رحيله.

(التشكيلة)

ولو جاز للأقلام أن تحذو حذو الأقدام في إعلان تشكيلتها المثالية لكلّ سنة، دوليًّا، قارّيًا، أو حتى وطنيًّا فقط، وجنّدت لذلك لجانًا لا يرقى إليها الشّك، لوجدَتْ صعوبة عظمى في ذلك، ولما حظيت اختياراتها بأدنى إجماع.

ولمّا كنتُ لا أبرح مراكش إلّا لِمامًا، سأظلّ فيها لهذا الأمر وأقتصر على هذه السنة فقط.

فبِمُراكش: أسرارٌ معلنة، ومراكش التي كانت، ومراكش نوار، وهوت ماروك، وكلّها صدرت في أكثر من طبعة وبأكثر من لغة، فجابَتْ هكذا أطرافَ المعمور، يكون ياسين عدنان قد سَدّدَ للمدينة، كتابةً، ما تقدَّمَ وما تأخّر وما ظهر وما خفِيَ من فواتير. أمّا شفاهةً، فقد كان الرجل، هذا العام، في المركز من دائرتها، دائرة الشفاهة المعروفة بساحة جامع الفنا، وذلك بإدارة مهرجان الكتاب الإنجليزي، كما بالحضور الوازن في مهرجانيْ الحكاية والكتاب الإفريقي. وعلى ذِكْر هذا الأخير، فعرّابُه هو الروائي والفنان التشكيلي المعروف ماحي بينبين.

وعن “سيرك الحيوانات المتوهمة” نال أنيس الرافعي جائزة الملتقى للقصة القصيرة بالكويت، وهي أرفع جائزة عربية لهذا الجنس الأدبي.

أنيس اعتنق القصة القصيرة منذ نعومة أحرفه، ولم يرتدّ عنها أبدًا، فلا يعرف المرء أيّهما مِحراب للآخر. وكما أوسعها تجويدًا واجتهادًا وأغدق عليها من حياته، أوسعته نورًا في محيطه الواسع.

وعن “الرحلة العجيبة إلى الحمراء” فاز عبد اللطيف النيلة بجائزة كتارا لرواية الفتيان، هو الذي راكم، في صمت وبتؤدةٍ، مُنجزًا معتبرًا في القصة القصيرة، وصل ذروته مع “كتاب الأسرار”، المجموعة القصصية البديعة التي أَقترِحها بإلحاح على قرّاء الأدب ونقّاده.

ولمّا كانت مراكش مدينة مسرح بامتياز، إذ في ساحتها تخلّق ذلك المسرح الذي يقتل بالضحك، فمن بين أبنائها الآن من يقدّم مسرحًا يقتل بالجمال، بعد أن صار للضوء والصوت واللباس والسينوغرافيا أدوار رئيسية.

لا هذا ولا ذاك أقصد، وإنّما أرمي إلى هذا النوع من المسرح الذي يحتاج ركحًا مُقعّرًا يعتمل فيه الألم الإنساني لدى الرجل، واسمه الحركي: جيلو، كما لدى المرأة، واسمُها التراجيدي: دنيا.

جيلو ودنيا عملان مسرحيان دشّن بهما طه عدنان ما يجب أن يعرف لاحقًا بمسرح الألم. وهما العملان اللّذان جالا العالم من الدّاوديّات إلى هيلسنكي، مرورًا بغير قليل من الحواضر والعواصم.

مناسبة هذه الإشارة هي أن مجلة “المجلة” العريقة صنّفت مسرحية “دنيا” ضمن أبرز إصدارات هذه السنة.

إذا كنتُ قد سهوت عن هذا الاسم أو ذاك، فالمرجو إضافته حتى بدون حيثيات. أمّا إذا جاز لي أن أضيف، فلا بدّ من السّاحة والدّار: ساحة جامع الفنا ودار بلّارج عن أعمالهما الكاملة.