آخر الأخبار

طـوطـوفـوت.. تـداعـيـات مـونـديـال المغـرب فـي قـطـر

سـعـد سـرحـان 

طــوطــو

في طفولتي المبكرة، كان طوطو لقبا عزيز المنال، لا يدركه إلا الأشرس من بين زُعران هذه المنطقة أو تلك من المناطق المُنفلتة. وما أن يفعل حتى تستتب له السوق بأسرها: خمرا، حشيشا وإتاوات… ويصير مرجعا لا غنى عنه في حل النزاعات الدموية، والمصالحات على مضض، والتسويات القسرية، وسوى ذلك من التدخلات الحقيرة المدرة للدخل. وبذلك يصبح طوطو على رأس مؤسسة عشوائية، الجريمة فيها أخت الأمن والضمادة فيها شقيقة النصل. وغالبا ما يكون لطوطو شقيقٌ أصغر أو أخٌ من الرضاعة، رضاعة القنينة طبعا، أخٌ يُقال له خوطوطو نِسبة إلى الخطوط التي يُحدثها في لحمه بشفرات الحلاقة كرسالة صارمة، مفادها أن من يُقطع لحمه لن يتورع عن فرم لحم غيره.

فــوت

من إحدى تلك المناطق السوداء بمدينة فاس، التي كانت مدينة أقلام قبل أن تنتهي مدينة سيوف، ينحدر يوسف النصيري، مهاجم المنتخب المغربي. الفتى التحق بمدرسة المغرب الفاسي، ثم بأكاديمية محمد السادس لكرة القدم، ومنها إلى أوروبا، حيث راكم غير قليل من المجد قبل أن يُتوِجَه بقفزتيه الشهيرتين اللتين صارت معهما نجوم إسبانيا والبرتغال جميعا تحت هامته.وإذا كانت قفزة النصيري الأخيرة هي الأعلى في تاريخ المونديال، فإنها عندي القفزة المُثلى في تاريخ الإنسان المغربي القافز. كيف لا وهي التي أسعدت المغاربة قاطبة، وأخرجت البشر في معظم دول المعمور إلى الساحات العامة، وجعلت اسم المغرب على كل لسان ورايته على بروفايلات طوطويات المال والأعمال والفن والسياسة والدين والرياضة من مختلف الجنسيات.من يعرف حقا من أين انحدر يوسف النصيري، سيرفع القبعة عاليا لأسرته، أعلى حتى من قفزتيه الشهيرتين. فلولاها، لولا الأسرة وتدبيرها الحكيم، لَما كان الفتى ينافس الآن على رجُل المونديال، ولربما كان، وليست البنية ما ينقصه، ينافس فقط على طوطو الحي.قفزة النصيري، الأعلى في تاريخ المنافسة، ستجعل المهاجم المغربي ينتصب برجا مغربيا يسامِقُ أبراج قطر.

طوطو

قفزات أخرى لم ترصدها الكاميرات، وهي عندي لا تقل شأنا عن قفزة النصيري، لعل أرفعها قفزة عز الدين أوناحي؛ فالفتى كان ينافس في الدرجات الدنيا للدوري الفرنسي، وحتى حين انتقل قبل أقل من سنتين بفريق أنجي، ففريقه يقبع في أسفل الترتيب. وها هو الآن مطلوب من قمم الدوريات الأوروبية الكبرى.فضلا عن العائد المعنوي غير المسبوق الذي جناه المغرب من مونديال قطر، فإن ارتفاع قيمة لاعبي المنتخب في سوق اللعبة سيكون له عائد مادي يفوق بكثير ما ستضخه “الفيفا” في خزينة الجامعة الملكية المغربية لكرة القدم نظير وصول الفريق إلى ما وصل إليه.هذه الكعكة الفريدة لا بد لها من كرزة، والكرزة المنتظرة هي بكل تأكيد الكرة الذهبية لإفريقيا، التي يجب أن تعود إلى المغرب في شخص أحد نجومه.

فــوت

انتصر المنتخب المغربي على نظيره الإسباني في مونديال قطر بضربات الترجيح، بعد أن كان قد انتصر عليه في مونديال روسيا مع وقف التنفيذ؛ غير أن هنالك انتصارا آخر لم يعلنه الحكم، هو انتصار أكاديمية محمد السادس لكرة القدم على لاماسيا، أشهر مدرسة لكرة القدم في العالم. هذا الانتصار امتد حتى ما بعد المباراة، حين عبر مدرب إسبانيا وبرشلونة عن إعجابه الشديد بالفتى أوناحي، خريج أكاديمية محمد السادس، مع أن المباراة عرفت مشاركة جافي وبيدري وفاتي، فتيان الذهب المتوجين من طرف “الفيفا”.لقد أعطت أكاديمية محمد السادس لمنتخب الكبار كلا من يوسف النصيري ونايف أكرد وحمزة منديل وأحمد رضا التكناوتي وعز الدين أوناحي. أما الفئات الأصغر سنا فتعج بنجوم الأكاديمية. وقد لا ينتظر منتخب الكبار كثيرا قبل أن تسطع فيه المواهب الفذة لكل من محمد أمين الساهل وأنس نناح ووليد حسبي وسواهم.

طـوطــو

قبل أسابيع فقط من انطلاق نهائيات كأس العالم، طفا على السطح شخص يقال له طوطو، تجتمع لساحته الآلاف. قيل يُغني البذاءات، وقيل يُروج للمعلوم، وقيل يُلحن الشتائم… وقيل: أخذته العزة بالنفَسِ، النفَسِ المُخدر، فكال السباب لغير قليل من السلف، فصار له ذكرٌ في الجرائد والمواقع والمحاكم…الغريب في الأمر هو أن الفتى لم يعدم من يحاول بيعه للمغاربة على أنه نموذج الشاب المغربي الناجح، قبل أن ينبري شباب المنتخب المغربي لتفسير النجاح وإعطائه معنى فصيحا للعرب والعجم؛ وهو المعنى الذي سار بذكره المشاة والركبان في مختلف ساحات المعمور.

فــوت

عقب كل انتصار للمنتخب المغربي كنت أخرج إلى ساحة الحي لأحتفل مع آلاف مِمن بهم مس مثلي، وكنت أتابع على الشاشات والمواقع احتفالات ملايين البشر في أرض الله الواسعة؛ ذلك أن المغرب كان ينتصر أصالة عن نفسه ونيابة عن أشباهه من الشعوب.وخلال متابعتي للاحتفالات رأيت جارنا السابع والسبعين ينتشي وأولاده بانتصاراتنا، فيما لم أشاهد لجارتنا الجُنُبِ حضورا ولم أسمع لها نأمة، ولقد التمستُ لها سبعين عذرا قبل أن يبطل العجب؛ فالسبب، والعهدة على من وشى، هو تداعيات انقطاع الطمث الذي يسبق سن اليأس، ولكَم أشفقنا عليها، نحن الذين نرعى قطعانا من الأمل في مروج المستقبل.

طــوطــو

في مونديال قطر، شاهد العالم والناس، وخصوصا كبار أوروبا، أي آباء وأي أمهات أنجبوا نجومنا التي تُرصع أنديتهم، من خلال والد النصيري ووالدة حكيمي وسواهما من وسائل الإيضاح في درس البُرور.الأمهات الفاضلات، وهن كذلك بفضلهن على الأبناء وما انطلى من فضلهم على الملاعب، كن حاضرات بما ملكن من دفء الأحضان ونشوة الأطراف بالرقص…وحدها مليكة لم تكن بينهن؛ فولد مليكة ينافس في بطولة يُدمى فيها الجبين.أما الذين يأتون بعضهم من جهة العقم، فلا نسل لهم يحضنونه أو يراقصونه في ساحة النداء بالأسماء ساعة التباهي بالأبناء.

فــوت

مثلما انتصر المغرب على إسبانيا بضربات الترجيح، انهزم أمام فرنسا بضربات الترجيح أيضا، تلك التي لم يحتسبها الحكم لفائدته حتى لا تَتَكَمشَ فرحة فخامة الرئيس التي جاء بها من باريس مكوية بعناية لأجل انتصار موعود، وحتى لا يُعمق إحباط جلالة “الفيفا” التي كانت تمني العين برؤية كريستيانو مرة أخرى، لولا أن النصيري ارتفع حتى فوق الواقع الذي لا يرتفع.حين تُقطب “الفيفا” جبينَها، فتلك ليست أسارير، وإنما هي وصمات عار انحفرت على مدى زهاء قرن، ولن يضيرها أن تنضاف إليها أخرى.ما أشبه صورة إنفانتينو وماكرون اليوم بصورة بلاتر ومانديلا البارحة، خصوصا أن لهما نفس الضحية: المغرب.ما حدث في مباراة المغرب وفرنسا أسال دمعا كثيرا، وعزاؤنا نحن المغاربة أنه أسال صورا وكلاما ومدادا أكثر.ولئن كان لقاء المغرب وإسبانيا شهد انتصار أكاديمية محمد السادس على لاماسيا، فإن عدم انتصار المغرب على فرنسا يذكر بذلك اللقاء السنوي الذي يتفوق فيه شباب بنكرير على باري سان جيرمان؛ ذلك أن طلبة ليديكس في مدينة الغبار غالبا ما يستأثرون بالإشعاع على حساب أبناء عاصمة الأنوار. ففي آخر مباراة، فاز أولادنا بثلاثة أرباع المقاعد المخصصة للأجانب في البوليتيكنيك، اثنان منهم تألقا في الأولمبياد الدولية للرياضيات، وتصدرا عناوين الصحف العالمية. صحيح أن تألق هؤلاء الشباب يعود إلى نبوغهم؛ لكنه يعود أيضا إلى أن الساحة التي يتبارون فيها ليس بها حُكام كحكام “الفيفا”.
يقينا أن باعة طوطو للشباب المغربي لا يعلمون أصلا بوجود أمثال هؤلاء.

طـوطـو

طيلة أطوار الحفل، قدم المغاربة للعالم طبقا فريدا ببهارات لم يسبق له أن تذوقها: النية، البركة، بر الوالدين، سير سير سير، السجود، علم فلسطين، لم نشبع بعد، الحظ، اللعب بالقلب… وهي التشكيلة التي إذا كان لها من نظير ففي المطبخ المغربي تحديدا، ويقال لها رأس الحانوت، أشهر مُضاد للعقم في المِخيال الشعبي.بعد كل طبق يبرز، كنوع من التحلية، رأس آخر، هو رأس لافوكا الذي استلطفه المدرب لقبا لنفسه، فصار تميمة يتبرك بها الجميع. أما عندي، فلافوكا، قبل الفاكهة وبعدها، هو المحامي. وقد كان وليد والذين معه أحسن مكتب محاماة ترافع بشكل مُفحم، لا عن كرة القدم المغربية فقط، وإنما أيضا عن التمغربيت في أعمق تجلياتها.

فــوت

لم يكن المغرب في مونديال قطر حامل راية فقط، بل حامل قيم كذلك. ولئن كان إعلاؤه من شأن الأسرة، وهي رحم القيم جميعا، مما لا يحتاج إلى إشارة، فإن تحليه بالإيثار، وهو من القيم الآيلة للانقراض، لهُوَ عندي مِما يستحق من الروح تصفيقا ولا أَحَر. ففي الوقت الذي شاهد العالم أجمع محاولة السطو الركيكة التي قام بها كريستيانو، وهو من هو في عالم كرة القدم، حين احتفل بتسجيل هدف لمجرد أن هبوب الكرة في طريقها إلى المرمى حرك شعرة من رأسه، كان سايس يتملص أمام “الفيفا” والناس من هدف احتُسب لفائدته على حساب زميله الصابري، هدف ضربة الخطأ التي آثر فيها زياش الصابري على نفسه، فاكتفى بأن همس بعض السحر في أذنه، فإذا الكرة ذخيرة حية تسعى إلى أسفل المرمى، وذلك مِما أوحى به موسى، أحد الألطاف الخفية في المنتخب. هذا الهدف يجب أن يُسجل باسم الإيثار.على أن أبرز صور الإيثار هي تلك التي يتنازل فيها لاعب عن جائزة مستحقة لفائدة زميل له. ففي ذلك، لعمري، درس في الإعلاء من شأن العطاء أمام ملايين مِمن يرون أن الأخذ يعلو ولا يُعلى عليه.

طـوطـو

مع وليد الركراكي، صار ممكنا الحديث عن بيداغوجيا وديداكتيك كرة القدم، بل وحتى عن كرة القدم بيو، تلك التي ستظل فاكهة المونديال التي لا تُنسى. فسعة الحيلة انطلت على ضيق الوقت فكان ما كان من الرجل وفتيته، فلم نعد نسمع سوى معجم البيت، ولا نرى سوى ما يتناهى إلينا من فعله في النفوس ومفعوله في الأجساد، بعد أن تلاشت تماما لغة الثكنة مع العقيد الذي ليس له الآن من يهاتفه في وحدته: العقيد طوطوزيتش.

فــوت

حين كان طوطو الصغير يتردد على ردهات المحاكم بتهمة الشروع في تَطْويط الشباب المغربي، كانت ملايين الحناجر في المقاهي والمدرجات والساحات العامة تصيح بأهازيج خالية تماما من البذاءات، فتشحذ بذلك الهمم وترفع الهامات، حتى صارت الجماهير من مختلف الجنسيات تحاول ترديدها وتسعى إلى ترجمتها للوقوف على ما بها من سحرٍ أين منهُ الانخطاف فأحرى المخدرات.
وعند هذه النقطة، جدير بالتذكير أن العراب الفني للمونديال هو واحد منا وبلون رايتنا اسمه ريدوان، وصوره فقط مع رئيس “الفيفا” وأمير البلد المنظم وسواهما من رؤوس الرؤوس، صُوَرُه فقط هي أهداف مغربية في أكثر من مرمى.هنالك من اعتبر مونديال قطر الأحسن في التاريخ؛ لكن المغرب جعل منه الأحسن أيضا في الجغرافيا والتربية الوطنية والإسلاميات والحساب والتربية الفنية والكيمياء. وعلى ذكر الكيمياء التي ستبدو للبعض محض مزايدة فارغة، سيذكر التاريخ أن العالم في مونديال قطر كان عبارة عن أنبوب اختبار، منطقة الانعراج فيه هي المغرب، والمغرب هو لُوَيْنَتُه الحمراء.

طـوطـو فــوت

طوطوفوت هو رهان معروف في المغرب له أكثر من مثيل في غيره من البلدان.المغرب راهن على نفسه، فربح أقصى ما يسمح به الرهان.أما الذين راهنوا على غيره فهو غير معني بإحصاء خسائرهم.في مونديال قطر انتصر الفوت على طوطو انتصارا كاد أن يفسده التحكيم الذي صرخت ضده آلاف الحناجر مشبهة “الفيفا” بالمافيا. تلك الهتافات ذكرتني بغياب إيطاليا عن المونديال، فإيطاليا هي أرض كرة القدم والمافيا، وهي أصل الطوطويات، ومنها انحدر أشهرهم على الإطلاق، طوطو رينا وطوطو سكيلاتشي، وهما وجهان لعملة واحدة: طوطوفوت.