إدريس الأندلسي
لو عاش ماكرون و لوبين و كل دعاة الانغلاق و الليبرالية المتوحشة و حتى من يعتبرون أنفسهم صحافيون في زمن تمويل يشتري المواقف و الصفحات و حتى مؤسسات إعلامية، في القرن الذي شهد ميلاد أنوار فرنسا، لكانوا في غياهب التاريخ و سكنوا مزبلته بشكل أكيد. طبقة سياسية تهيمن على فرنسا و لا تعكس ما راكمته هذه الدولة من تاريخ عريق في الممارسة الفلسفية و الثقافية و السياسية. خطاب النخبة التي تحكم بلاد روسو و ديكارت و فكتور هوغو و غيرهم ، لا يعكس تاريخا بل ردة حضارية يشهد عليها واقع تعيشه شوارع فرنسا و مؤسساتها و حتى جامعاتها و على الأخص جزء كبير من صحافتها. حماة الحرية و الوعي بالتاريخ يواجهون جحافل اللاوعي و الخضوع لمؤسسات المال و قيادات الإقتصاد غير المرتبط بالإنتاج الفلاحي و الصناعي و الخدماتي. فولتير يكاد يتحرك في مثواه حقدا على من يدبرون فرنسا. أخال أنه يبكي، بعد قرون، على تغييب الفكر و المبادىء و حرية التعبير. و مؤسسو صحف لومند و الابسيرفاتور و غيرهم يبكون على ما أصبحت عليه صحافة تبيع شرف المهنة بالقليل و تركع لأصحاب رأس المال. و قد وصل الحال بصحافية صهيونية فرنسية إلى التصريح بضرورة إعادة استعمار أفريقيا اقتصاديا. ا ليس هذا بعهر؟
اعتمدت فرنسا على استغلال كبير للقارة السمراء عبر علاقات غير بريئة مع مستعمراتها بعد الاستقلال. تم التوقيع على اتفاقيات ضمنت للمستعمر القديم ” الجديد “استمرارية الهيمنة و تم القضاء بشكل ممنهج على كل معارض للشكل و للمضمون الذي سطرته القوى الإستعمارية بعد أن خرج العسكر الإستعماري و الإدارة الإستعمارية من كثير من البلدان. أفريقيا هي الكنز الذي لا ينضب و هي المنبع و هي الملاذ للرأسمال و لكل أشكال الاستغلال. من القهوة أو لنقل، البن إلى الكاكاو و أكثر أنواع الخشب طلبا على صعيد العالم، إلى الذهب و الغاز و البترول و الألماس، كشر الإستعمار الجديد على انيابه القاتلة لكي يدبر الانقلاب ضد كل زعيم أراد أن يطور اقتصاد بلاده. و تبعت صحافة العهر اسيادها لتحميهم من أي انتقاد. كل من أراد الخير لبلاده دكتاتور في نظرهم و كل من جابه المستغلين لخيرات الأفارقة عميل للشيوعية و لبوتين و للإسلاميين و لإيران و حتى للشيطان. فرنسا تعيش على نهب خيرات مستعمراتها السابقة و تكشر على انيابها لكي تعدم كل من يقف في وجهها. الصحافة الحرة تذبح كل يوم على باب الاليزي. و في هذا اليوم تم اعتقال صحافية فرنسية رفضت الكشف عن مصادرها بخصوص عمليات تجسس و تجهيزات تم تسليمها لمصر. و تريد صحافة العهر الفرنسية أن تزيح عن نفسها صفة الخادم المطيع لمن اشترى الأقلام و الألسنة و الضمائر.
عشنا خلال العقود الأخيرة على ايقاعات الانقلابات في أفريقيا و لم نتوقع أن يتحول الموقف من مساند للتحرر إلى ساكت عن قمع حركة من أجل التغيير. عملت جماعات الضغط و المكلفة بالمهمات القذرة على طمس كل ارادات التغيير. و هكذا تم اغتيال باتريس لومبا و موديبو كييتا و حبس نيلسون مانديلا و تم اغتيال مناضلي تحرير الجزائر و أنجولا و فلسطين . حصل كل هذا في محيط جغرافي يتكلم ممثلوه عن قيم الحرية و الديمقراطية و التضامن و لكنه يقرأ لغة السلاح بمنهج المصالح المقدسة للسيطرة على المواد الأولية من غاز و بترول و نحاس و فضة و ذهب و توظيفات مالية في أسواق تخضع لقانون الغاب. المغفلون منا و المصدقون للقول الذي ” لا يعلى عليه ” ديمقراطيا و حقوقيا و حضاريا ، يجدون أنفسهم وسط الغاب الذي لا يحكمه إلا قانون الغاب. لا تصدقوا كل من أقسم على معاداة قانون الغاب.
الهؤلاء الذين استعمرونا و اؤلئك الذين يقررون في كل قوانين العالم في الأمم المتحدة و في مجلس الأمن و في صندوق النقد الدولي و في البنك الدولي، لهم برنامج يهم نظاما عالميا نحن يعتبرون الآخرين مجرد أرقام. هم الآن يتحكمون في الذكاء الاصطناعي و في أسواق المال و الطاقة و الغذاء و يغرقوننا في تفاصيل حروب صنعوها في قلب أوروبا كما صنعوا داعش و القاعدة و كل من يجري خلف وهم يصعده إلى المقامات العليا و لو تطلب الأمر ” جهاد النكاح ” و تمويلا لا يباح. الإستعمار منهج يريد أن يستقر إلى الأبد في عقر الدار و يحاول أن يقنع الجهلاء بدفاعه عن الحرية و الديمقراطية و هو العدو الأوحد لهما. و ينجر الكثير منا خلف اللعب على وتر المبادىء العليا التي يجب أن تسود الإنسانية.
قد نتعايش مع سنوات حكم ماكرون الآتية و لكننا لن نكون مهادنين لتطاولاته على القارة الأفريقية و خصوصا على بلادنا و مؤسساتها. كل المؤسسات الدولية تعرف أن فرنسا لم تستسلم لواقع ما بعد 1960. حاول حكامها إدخال شيء من الحكمة على خطاباتهم ، ولكن صناع الزعامات دخلوا سوق السياسة ” فامروا مترفيها ” و كان ما كان من استهتار بكل ما راكمته فرنسا منذ عقود من الزمن. حاول الرئيس الراحل ميتيران الاشتراكي التعامل مع أفريقيا بمنطق الوصاية دون معرفة واقع الاستغلال، فرحل و ترك وراءه فضائح مالية وسجن أقرب الناس إليه. و وصل إلى القيادة السياسية شباب لم يسعفهم تعليمهم و لا ذكاؤهم لتغيير مسار انحداري لبلدهم و انطلقوا لهدم كل رأسمال راكمه الحكماء ممن سبقوهم.
أصبحنا وأصبح الملك لله و إنتهت أو تكاد تنتهي عمليات الإنقاذ في اقاليم الحوز و تارودانت و في مدينة مراكش. توجه ملك البلاد بالشكر لمن اختارهم المغرب شركاء في مواجهة الزلزال و بين أن دولة حكمها الادارسة و المرابطون و السعديون و المرينيون و بنو وطاس و التي لا زالت مملكتهم علوية منذ قرون، أولى بمواجهة محنتهم مع الأصدقاء من غيرهم. نعم، سعداء هم المغاربة الذين كتبوا تاريخا و صنعوا شبكات للتضامن و الذين لن يرتاحوا قبل إعادة بناء ما دمره الزلزال.
قال رئيس الولايات المتحدة أن بلاده متضامنة مع المغرب و أنه يقدر أداء مؤسسات بلادنا في مواجهة الزلزال بفاعلية و مهنية و إلتزام. المغرب هوية و تراب و انتماء و تعاضد و تعايش و محبة و قوة خير و منهاج لخلق الغد الأفضل. لا نصنع غدنا بموارد طبيعية فقط بل بجهد العامل و الفلاح و المهندس و الطبيب و المقاول و الجندي و المقيم خارج الوطن، و هذا سر حبنا لوطننا. نجحنا في مواجهة الزلزال و اعتمدنا على أنفسنا أولا و على إخواننا و اصدقاءنا و فتحنا أبواب الأمل في صنع المستقبل. لا نطمع في أن يزورنا ” حاتم الطائي ” و لكن تؤازر أبناء البلد و مساندة الأصدقاء سلاح ضد آثار مصيبة رضينا بها و تملكنا أدوات تجاوزها. لا نحتاج إلى منافق و لا إلى متاجر بالسياسة و لا إلى خديم لمقاولات تحتاج إلى المزيد من الصفقات. من يظن أن التصريح بقيم الغرب و القسم على احترامها حقيقة فلا يجب أن يكون من زمرة من يريدون خدمة وطنهم. المغاربة الذين تضامنوا مع إخوانهم تملكوا خبرة بناء السدود و المطارات و الطرق السيارة و المشاريع المائية، قادرون على البناء بالعلم و العقل و المشروع الاستراتيجي. و لكل ما سبق وجب التأكيد على أن أبناء المغرب أحق بإعادة إعمار كل شبر من وطنهم. لا يهمهم أن يزيد حجم نباح صحافة العهر و لن يلتفتوا إلى الا لمن يحمل فكرا و مشروعا لبناء علاقات متكافئة و شفافة مع بلدهم.