آخر الأخبار

 تردي الذوق العام و دور الإذاعات و التلفزيون 

إدريس الاندلسي 

الكلام عن الذوق في معناه المجازي سيظل نسبيا مجاليا و فلسفيا و اجتماعيا. فرق الإمام الزمخشري بين الذوق الحسي المرتبط أساسا بتذوق الطعام و بين الذوق المرتبط بالأشياء غير الحسية كالشعر و يمكن أن نزيد عليه النغم و الغناء و جميل الكلام غير الموزون. و قال بن منظور أن الذوق يمكن أن ” يفاضل بين القبيح و الجميل ” . و أعطى أهل الصوفية للذوق مرتبة كبيرة لأنها وسيلة للإدراك القلبي كسبيل للكشف. الذوق الجميل مفهوم فلسفي مرتبط بمفهوم التربية و اكتساب الكفاءات و التشبع بالقيم. الأمر نسبي و لكنه يرتبط رغم نسبيته بالجمال و الحسن و سبل ادراكهما.

كثيرا ما سمعنا في المثل العربي القديم ” من شب على شيء شاب عليه” . و هذا المثل يشير إلى أهمية طرق اكتساب المعرفة و المهارات و السلوكات و ما يفرضه المحيط الإجتماعي و السياسي و البيئي من شروط للوصول إلى مرتبة ما . الذوق مرتبط بتاريخ الأمم و الحضارات و بنية الطبقات الإجتماعية في صراع المسك بالسلطة و الإستمرار في السيطرة عليها. و لأن الذوق الرفيع كثيرا ما شكل ذلك الحاجز بين طبقة و أخرى، فكثير من معالم هذا الذوق و تجسداته وجدت في القصور مكانا كلوحات و في المسارح الملكية و الامبراطورية . و قد كانت الأرستقراطية درعا لكثير من الفنانين و مصدرا للدخل للكثير من المبدعين الذين تؤثت أعمالهم أكبر متاحف العالم. و لم تخرج الأنظمة الاشتراكية و الرأسمالية عن مهمة الحرص على الذوق الرفيع في لينين كراد و لندن و باريس و بيكين. و لنا في تطوير الرقص الكلاسيكي خلال الفترة السوفياتية خير مثال على إهتمام الأنظمة بالفن الرفيع و استغلاله في الصراع السياسي و الإقتصادي و الدبلوماسي.

يمكن اعتبار هذا المدخل نوعا من التهييء لمرافعة حول ضرورة الارتقاء بالذوق في مجتمعنا. كثير من متابعي تطور مجتمعنا يلاحظ كم تغيرت الأذواق و كم تغيرت طرق التعبير عنها. المسألة لا تنحصر في القبول أو الرفض لحركة فكرية أو ظاهرة فنية أو ثقافية. الأمر يتعلق بالشكل و بالمضمون الذي يحيط بإنتاج أغنية أو رقصة أو لوحة أو مسرحية. في السنوات الأولى للاستقلال، سادت موجة اجتهاد في مجال الخلق و الإبداع بالموازاة مع إرادة سياسية لبناء اقتصاد وطني يستجيب لطموح التأكيد على قدرة المغاربة على استغلال ثرواتهم و تثمينها في كافة المجالات.

تحركت الإرادة الإبداعية في مجال الإنتاج في مجال الطرب و الموسيقى. كانت الأشعار الغنائية تعبر عن رغبة في ترقية الذوق. و تطور العمل المسرحي المحترف و الهاوي و عرضت الكثير من الأعمال في المسارح و قاعات السنيما. و حملت هذه الأعمال المسرحية الجميلة تناقضات المجتمع و لم تخفيها. من عبد الصمد الكنفاوي إلى أحمد الطيب لعلج و الطيب الصديقي و الشرايبي و البدوي و برشيد و الجندي سرى المبدع في سراديب الإبداع. الذوق و النقد المجتمعي و السياسي لم يغلق أبواب الزنازن أمام المبدع في بعض المحطات. تم منع أغان و مسرحيات و معارض فنية و كتب في بعض الفترات. و رغم هذا نفذ الإبداع النقدي إلى عمق المجتمع.

كان لجيلنا حظ كبير لأنه شرب من نبع نساء و رجال نسجوا الكلمة و النغمة و دخلوا قلوب مواطنيهم من باب” القمر الأحمر” الذي نادى” حبيبي تعالى” فأجابه نلتقي في “مولد القمر” و على “الشاطىء ” . وكان الراشدي و العلوي و البيضاوي و الدكالي و بلخياط و الإدريسي و أمينة إدريس و بعدهم نعيمة سميح و سميرة بن سعيد و رجاء بلمليح و نعمان لحلو و البشير عبدو و عبدو الشريف و أسماء لمنور و عزيزة جلال و اللائحة طويلة، على موعد مع الذوق الرفيع.

الكلام عن الذوق الجميل و عن الإبداع المرتبط بالثقافة التي تربي الأجيال على الجمال و تحثهم على الانتفاضة ضد الجهل و الفقر الفكري له سبب كبير. هذا السبب هو أن جل الاذاعات الخاصة تعمل بكل جهد على إفساد الذوق العام. قليلة هي البرامج الإذاعية و حتى التلفزية العمومية التي تفلت من سطوة نشر و تقديم ما يسمى عبثا بالطرب الشعبي. أصبح ما يحرك الأجسام و ينوم العقول هو هذا الغناء الذي يغرق في قعر الإيقاعات الصاخبة و لا تكاد تسمع بفعلها صدى لكلمات تخرج من فم مغن أو مغنية كأن المسرح يوجد خلف بركان هادر.

في بداية السبعينات كانت أشعار الجواهري و الطيب لعلج و الباتولي و بلحسين و الجاي و فتح الله لمغاري و الحداني و غيرهم من ذوي القريحة تجد صدى كبيرا لذى التلاميذ و الطلبة و الصناع و العمال و الفلاحين و في كثير من المجالات العامة. أما الآن فقد أصبح من يبرمجون إذاعة ما يسمى بالأغنية يهتمون بما يمثل الرداءة صوتا و نغما و مضمونا إلا من رحم ربك. و هذه الاذاعات و حتى التلفزيون العمومي يدعون أن لهم رسالة تربوية و تثقيفية و منفتحة على الجمال و الإبداع. قليلة هي تلك اللحظات التي تتيحها الإذاعة الوطنية للجمال و الكلمة الهادفة و رغم هذا الواقع المر يظل بعض المبرمجين مسكونين بالجمال و هم قلة و كثيرا ما تتم محاربتهم بشكل ممنهج. أما برامج التلفزيون الممول من طرف دافعي الضرائب فقد أصبحت مهمة من ينتجون له برامج السهرات الغنائية هي ضرب الذوق الجميل في الأعماق. و هنا تصل لغة السوق إلى حدود محاربة الإبداع من التفنن في مدح الرداءة و حامليها .و يتفوق ذلك الذي يقول ” الجمهور عايز كدة” على ذلك الذي يؤمن بضرورة ركوب أمواج الإبداع لتربية الأذواق. يا من يحتقر الجمال الفني الحقيقي هل تقدر على مقاومة جمال ما غناه إسماعيل أحمد و عبد الهادي بلخياط و عبد الوهاب الدكالي و الحمداوية و لطيفة آمال و نعيمة سميح… و كفى من التخلي عن أكبر مهمة الاذاعات و التلفزيون و هي خدمة المواطن و ليس “تكليخه”.