آخر الأخبار

بنك الثقة

سـعـد سـرحـان

تلك اللّجنة

كلما سمعت كلمة “لجنة” تتبادر إلى ذهني لجنة صنع الله إبراهيم، ليس فقط كما تخيّلها وهو يكتب، وإنّما أيضًا كما تخيّلتُها وأنا أقرأ. أمّا مع هذه، فما تبادر إلى نفسي، حتّى ونحن في فصل الزّكام، فهو تلك الرائحة.بُعَيْدَ تعيين تلك اللجنة، نشرت الجرائد صُور أعضائها مُرفقةً بسِيَرهم الأكاديمية والمهنيّة مختصرة اختصارًا مفيدًا. ولعلّ أكثر ما أثار انتباه الجميع، والجميع فقط، هو خُلوُّها من الأحزاب.غياب الأحزاب يطرح عنقودًا من الأسئلة، ومع أنّه حَصْرَمٌ كلّه حصرم، فلا بدّ من تناول بعضه.أليستِ الأحزاب، بصرف النظر عن نسبة الدّولة في لُحمتها، هي ما يُشكِّل سَدَاةَ الحكومة؟ وأليست هذه من ستناط بها مهمة تنزيل النموذج التنموي والعمل على استتبابه، أم أنّ الأمر سيوكَل إلى حكومة منبثقة من اللّجنة لا من الأحزاب؟ وهل كانت الأحزابْ، طيلة هذه العقود، تتدافع بالمناكب وتتنابز بالألقابْ، وهي تتقدّم نحو كراسي السّلطة، حافيّة تمامًا من أيّ نموذج تنموي؟ ثم ما حكاية هذه الشّبيبَات الحزبية التي لا تشيخ، وما هي تكويناتها الأكاديمية، ولِمَ لا نرى لها أثرًا لا في هذا البرنامج ولا في تلك اللجنة؟ وبأيّ حافز سيذهب النّاخب إلى صناديق الاقتراع، وفي أي حزب سيضع ثقته وهو يرى الأحزاب عاريّة من ثقة الدّولة؟ وإذا كانت الدولة ترى الأحزاب قاصرةً تمامًا، فلِمَ لا تقبل بها مستمعةً، على الأقل، في فصل النموذج التنموي، فتمنحها بذلك فرصةَ التّمييز بينه وبين برامجها، وتُحفّزها على تحسين الخطّ وهي تدبّج، على عجلٍ، هذه البرامج؟ وثمّة ملاحظة أخرى: هيمنة بروفايلات المال والاقتصاد على أعضاء اللّجنة.صحيح أنّ المال هو الحجر الأساس لأيّ تنمية. لكنّ الحجر مهما كان صلدًا، لا يمكن أن يُشكّل مبنى لوحده، إذ لابد للمبنى، أيّ مبنى، من زجاج وحديد وخشب وأسلاك ومواسير… فهي ما يجعل له معنى.فالمال مهما طفح، لا يضمن التّنمية لأربابه. ولنا فقط أن نلتفت إلى مدن الملح لنرى أيّ تخلف وأيّ فقر تعيش بعض الأقوام لأنها لا تملك سوى المال.فأي نموذج تنموي هذا الذي يغيب عن لجنته السيّاسيون والحقوقيّون والمفكّرون والفنّانون والمثقفون وسواهم من منتجي الثروة؟ أليست الثروة غير الماديّة ممّا يمكن استثماره في أي تنمية؟ والرّائحة؟ كيف خطرت لي تلك الرائحة؟ الأرجح أنها جاءت من القول المغربي المأثور. فعند الأغنياء أنّ المال وسخ الدنيا، فيُنَفِّرون الفقراء منه، ويجعلونهم يطمئنّون إلى نظافتهم المدقعة. وعند الفقراء أنه نتن، فيُعزّون أنفسهم بأنّهم ليسوا مصدرًا لتلك الرائحة.غير أن الأمر هنا ليس بين هؤلاء وأولئك، وإنّما بين الدولة والأحزاب. والمال في برامج هذه ونموذج تلك لا يحتمل أي استعارة مُغرضة، فهو يحضر بوجهه لا بقفاه.بنظرة سريعة على تخصّصات أعضاء لجنة النموذج التنموي، نلاحظ أن الدولة لجأت إلى المال المتعلّم، وهو الوجه الذي نتمنّاه بشوشًا أمام العُبوس المُزمن الذي يعاني منه غير قليل من العباد في هذه البلاد. وبذلك تكون الدّولة قد سجلت هدفًا مبكّرًا في مرمى الأحزاب، فهذه لا تتورّع، مع كل استحقاق، عن اللجوء المُذِلّ إلى المال الأمّي المعروف انتخابيًّا بالأعيان. ومع انطلاق الشوط الثاني، شوط المُشاورات، سنرى كيف بدأت الأحزاب تسجّل ضدّ مرماها. وإذا كان للتاريخ أن ينسى، فلن ينسى أبدًا مِقَصِّيَة اللّاعب الكبيرْ “إدريس الأخيرْ” التي سجّل منها هدفه الأنطولوجي بعد أن تقدم مخفورًا بكرشه الخارقْ، وبخولة وطارقْ… وكأنّ القوات الشعبية أقلعت نهائيًّا عن الإنجاب. بعد نهب الكثير من الصناديقْ، ونقض العديد من المواثيقْ، وفشل غير قليل من المخطّطات القُزحيّة… ستجد اللجنة نفسها أمام ثروة طائلة من الإفلاس راكمها المواطن المغربي عقب عقود من الوعود. لذلك، نتمنّى أن تنجح لجنة النموذج التنموي، في أن تفتح للمغاربة حسابًا جديدًا في بنك الثقة، وأن تضخّ فيه ما يكفي لخفض نسبة اليأس في أحلامهم، قبل أن تنبري لتحقيق هذه الأحلام بهِمَّة من يحقّق مخطوطة نفيسة.فبذلك، وبذلك فقط، قد تخلد هذه اللجنة في ذاكرة المغاربة، وخصوصًا منهم الفقراءْ، مثلما خلدت لجنة صنع الله إبراهيم في ذاكرة القرّاءْ.