آخر الأخبار

اوراق من ساحة المقاومة المغربية لعبد السلام الجبلي

التخطيط للفرار من سجن القنيطرة للمرة الثانية في سجن القنيطرة جناحان : جناح خاص بمن حكموا بأكثر من عشر سنوات ، وجناح مخصص لأصحاب الأعمال الشاقة ، زجوا بي في جناح المحكومين بالإعدام . ضم جماعة وجدة ، التي اعتقل جل عناصرها ، و حوادث اندلعت في هذه المدينة ، فور نفي سلطات الحماية لمحمد الخامس . وجدتُهم في حالة سيئة ، يائسين من الحياة ، ولا ينتظرون سوى الموت . كنت ألتقي بهم في ساحة الاستراحة ، فلاحظت أنهم كانوا منهارين نفسيا ، مرعوبين ، وكلما فتح باب يشرئبوا بأعناقهم ، لأنهم يعتقدون أن تلك هي النهاية بالنسبة إلى وجودهم . كذلك وجدتُهم . بدأت أرفع من معنوياتهم بأن أكدت لهم أنهم معتقلون من أجل وطنهم ، لذلك يجب عليهم أن يؤمنوا بهذا الدافع ، وأن يعرضوا عن اليأس ، وينشغلوا بما هو أفيد ، وأن يعملوا على ملء أوقات فراغهم . ودعوتهم ، جميعا ، إلى التفكير في طرق تفادي هذا الرعب المستمر ، في أذهانهم ، وفي قلوبهم ، نظمت دروسا خاصة بمحو الأمية ، وكان من بينهم عبد الرحمان احجيرة ، وآخر لم أعد أتذكر اسمه ، وهما معا يتمتعان بمستوى تعليمي جيد . بدأ المتعلم يعين غير المتعلم ، 2 جواسري أسر ، ثم نظمنا أوقاتا خاصة بمناقشة الوضعية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمغرب وبمجرد ما انشغلوا بهذه الأمور ارتفعت معنوياتهم ، وعادوا سجناء عاديين ، يضحكون ويمرحون ، دون نقص أو كرب ، حتى زال عنهم رعبهم . بالنسبة إلي ، كان يعودني طبيب فرنسي بسبب ما أصابني من حساسية عقب التعذيب ، الذي تعرضت له ، إذ تردت حالتي الصحية ، كثير العطاس ، وأنفي يسيل على الدوام . كان هذا الطبيب بي يزودني بالأدوية ، ويقدم إلي بعض الإرشادات كي أتجنب ما يجعل هذه الحساسية تتطور . فاتحته ، في كل ما له علاقة بحقوقي ، وكنت بذلك أستدرجه كي ينيرني ، فأخبرني ، قائلا : – من حقك أن تطالب بجمية في الأكل ، وبحصولك على فراش وغطاء كافيين ، وهي أشياء يكفلها لك القانون لأنك الآن محجوزي جناح المحكومين بالإعدام . بادرت إلى المطالبة بكل هذه الحقوق ، وبدأت أتمرد كي أحصل على ما كنت أطالب به وكان أن بدأت مفاوضات بين المغرب وفرنسا أطلقت ، هذه الأخيرة على إثرها ، سراح الزعماء السياسيين لتلطيف الجو وإبداء حسن النية ، ولكي يسود ، بعد ذلك ، جو آخر أثناء استئناف تلك المفاوضات . كنت أتتبع ، من خلال السجن ، أطوارها بواسطة محاميين كانا يزوراني ، فنسجت وإياهما علاقة طيبة ، خصوصا الأستاذ عبد الرحمان الخطيب : أخ الدكتور عبد الكريم الخطيب . كان يزورني باستمرار ، ويخبرني بكل ما يجري ، في تلك المفاوضات . كان هذا المحامي المنتمي إلى الحزب الشيوعي المغربي قد طرح علي ، مرة ، سؤالا قائلا : – إذا وقفت أمام القاضي ، فهل ستتكر أم ستصرح بحقيقة ما قمت به ؟ فكان جوابي : – بالطبع ، سأصرح بكل ما قمت به به . لكنه لم يشاطرني هذا الرأي ، لأن التصريح بالحقيقة جزاؤه الإعدام المحاكمة لأنه لم يكن ليطيق سماع الحكم بالإعدام ينطق لا غير . ونظرا للعلاقات المتينة التي كانت تربطني به ، فضل ألا يحضر ولذلك طلب أن ينسحب من الدفاع عني . وافقته على ذلك ، متفهما موقفه ولكن شرط ألا يقطع زياراته لي ، لأنني لم أكن قادرا على الاستغناء عن نصائحه ، ومعلوماته عن سير المفاوضات . فيما بقيت على اتصال بالمحاميين الفرنسي ” لوي جي ” ، والمغربي العمراني الذي ناب عن ” شارل لوغران ” . وعدني عبد الرحمان الخطيب بمداومته لزيارتي ، وباستئنافه لتزويدي بما استجد من أخبار . في هذا الوقت كنت أحضر للهروب من السجن ، وكنت أستشير ، في هذا الأمر ، البشير الفكيكي ، ومع فرنسية هي زوجة مولاي الشافعي ، التي أحببنا أن نسميها رشيدة ، كانت هذه السيدة تزورني ، لأن زوجها كان معتقلا في السجن ذاته . أما البشير الفكيكي فقد اعتقل ، وهو قاصر ، لم يتعد سنه ست عشرة سنة ، ولذلك لم يحل على المحكمة العسكرية ، وإنما أحيل ملفه الفارغ على المجلس الأعلى للقضاء ، لأنه لم يعترف بأي شيء . كان قد اعتقل مع جماعة ، في درب مولاي الشريف إذ صادف أن كان جالسا مع شخص من أفراد هذه الجماعة ، التي تم اكتشاف أمرها أثناء دورية عادية قام بها القواد ورجال الأمن ، في البيضاء ، فوجدوا مسدسا في حوزة شخص ينتمي إلى الجماعة ذاتها ، ولذلك اعتقل الفكيكي . كان تلميذا نجيبا ، يساعدنا على إعطاء دروس في محو الأمية لفائدة السجناء ، وكان يتابع دراسته ، في السجن ، لأنه كان حاصلا على شهادة الدروس الابتدائية . ولما اقترحت عليه الهروب معنا رفض ، وقال لي : – لن أفر معكم ، لأنني متيقن من براءتي ، وملفي فارغ . وكان أن برأه المجلس الأعلى ، وبقي مع ذلك يزورني ، في السجن ، فطلبت منه أن يساعدني ببعض الأشياء ، لأنني أنوي الفرار . دفعتني فكرة الفرار إلى أن أبحث عن صداقة استراتيجية ، فأخترت أحد الحراس ، وكان مكلفا بحراسة مكتب المسؤول عن السجن . ربطت علاقة صداقة متينة مع هذا الحارس، ولم اخبر احدا من زملائي بعملية الفرار، لأنه كان لدي انطباع  أن السجناء لما سمعوا ببدء المفاوضات تقاعسوا ، ولم يعودوا يهتمون بعملية الهروب ، لذلك لم أخبر أحدا . واعتبرت أن في ذلك إجهاضا إن أنا أخبرت به ، لأن هاجسي منذ،ولوجي السجن لأول مرة كان هو فكرة الهروب .

كنت أدرك أنني إن نفذتها ، فسألبي رغبة بقيت تسكنني ، وتتحداني .

 

كانت مسألة الزيارة تتم بناء على ترخيص من المحكمة ، وكان لا يد أن تجمع بين الزائر والسجين قرابة عائلية . وبما أننا مجموعة من المعتقلين المنتمين إلى مدينتي القنيطرة ومراكش : وأذكر من مدينتي مولاي الشافعي ، ولحسن الروداني ، وبما أن رشيدة زوجة مولاي الشافعي كانت تتوفر على اللائحة الكاملة للسجناء المسموح بزيارتهم ، فقد جمعت هذه السيدة مجموعة من النساء ، حسب ما أمليته عليها ، وزودتني بملابس بعضهن ، أثناء الزيارة ، وصادف ذلك اليوم وجود الحارس الذي ربطت وإياه صداقة متينة ، أمام مكتب المدير . كان البشير الفكيكي قد اتفق مع تنظيم القنيطرة ، الذي عين ” ابريك لقرع ” لإجراء ذلك الاتفاق ، وليعد سيارة ثقلني من باب السجن . ولكي أحظى بالخروج إلى الزيارة طلبت مقابلة المدير حتى يتسنى لي مغادرة غرفتي ، فسمح لي بذلك ، ولم يكن غرضي هو مقابلة المدير ، وإنما كان الهروب هاجسي . لكنني شرحت لهن الخطة ، وطلبت من مجموعة منهن أن تصاحبتني حتى أندس بينهن ، أثناء خروجهن ، وأن تتأخر مجموعة أخرى ، في الخروج ، حتى أغادر السجن تماما . وكان أن عنت لي امرأة تحمل رضيعا ؛ طلبت منها أن تسلمني إياه فوافقت ، للتو ، وبأريحية ، أخذت الطفل ، وبدأت أستدرجه إلى البكاء لأموه على الحراس . ولما دخلت إلى مكان الزيارة ناولتني رشيدة الملابس ، ارتديثها ، ولم تكن النساء يعلمن بما سيحدث . شرحت لهن ترتيبات ما هن مكلفات به : أن يبقى نصفهن وقتا ، فيما يصحبني النصف الآخر لكي أندس بينهن ، ولكن سرعان ما هرعت ال عت الأخريات للخروج ، لأنهن كن خائفات ، مترددات ، فشرع الحراس يعدونهن ليتيقنوا من أن العدد ، الذي دخل إلى السجن ، هو نفسه العدد الذي يتأهب للمغادرة ، واتضح لهم أن هناك امرأة زائدة ، فأطلقوا صافرة الإنذار . من حسن حظي أنني كنت قريبا ، جدا ، من الباب ، فهرعت خارجا ، ولما تعقبني الحراس صعدت إلى السيارة ، وكنت مسلحا بمسدس متحني إياه البشير الفكيكي ، HUAWEI nova 3i DUAL CAMERA

لكن لم يكن السائق ابريك موجودا ، في السيارة ، فيما كان الرضيع يبكي، ولكن ندمت على اخذه من امه، اذ وجداني بين حرج قاتل يمنعني من إخراج المسدس والتلويح به على الحراس كي يبتعدوا ، وبين أن أهتم أحد الحراس أمام السيارة . وفي هذه الأثناء حضر السائق وشغل المحرك ، بالرضيع ، الذي ما زلت أحمله بين يدي ، باكيا . ومما زاد الطين بلة أن وقف فأمرته بالقول : – انطلق ، ولا تبالي بالحارس الواقف أمامك . وكان أن تنحى هذا الأخير لما أحس بالخطر ، وانطلقت السيارة ، فسألني ابريك : – إلى أين أنت ذاهب ؟. أجبته : – إلى أقرب مكان تعرفه ، في المدينة ، على أن يتوفر على مرآب . وبعد بضع دقائق وصلنا إلى إحدى الدور ، ففتح المرآب ، وأدخلنا إليه السيارة ، ثم دخلنا إلى المنزل . ذهب ابريك ليخبر من أرسلوه أن العملية قد نفذت بنجاح ، وأن المعني بالأمر في أمان ، ثم أخذ الطفل إلى أمه ، وكان اسمه نجيب ، تيمنا بأول رئيس للجمهورية المصرية إبان الثورة . انتقلت من ذاك البيت إلى آخر . ولاحظت أن رجال الأمن قد طوقوا كل الممرات ، والطرق للبحث عني . بعد ذلك زارني الفقيه البصري ، وكان مصحوبا بالثناني * ، فرافقتهما إلى الدار البيضاء ، شمل البحث عني كل أنحاء المغرب ، وضبطت السيدة رشيدة ، التي ساعدتني ، غير أنه تم إطلاق سراحها ، في وقت بدأت فيه الأمور تنفرج ، إذ لم يثبت في حقها أي شيء ، سوى أن رخصة زيارة السجن من لدن مجموعة من النساء كانت في اسمها .