859
سعيد عفلفل
نحن الآن بصدد الحديث عن شخصية استثنائية، شخصية تركت بصمتها واضحة في التاريخ، شخصية ذات صيت كبير ملأت الدنيا ر طبقت الآفاق. إنه الخليفة العباسي هارون الرشيد.
ذكر الشاعر محمد النجار هارون الرشيد في قصيدة التوبة أو تب للغني. وكما أردنا سالفا حين تحدثنا عن بعض الشخصيات، أتى ذكر هارون الرشيد في سياق إسداء النصح، فالشاعر يثير الانتباه إلى أن الإنسان يجب أن يأخذ الدروس و العبر من التاريخ وأن يتمعن في مصيره و مآله ، وأن يتعض و يتأكد أن دوام الحال من المحال فلا جاه ولا ملك، ولا سلطة ولا نفوذ، ولا استمتاع بالحياة و متعها يدوم. ويعطي أمثلة بملوك و أباطرة و خلفاء و جبابرة ملؤوا الدنيا و شغلوا الناس لكن سطوتهم و جبروتهم انتهى و انقضى.
يقول الحاج محمد النجار في قصيدة تب للغني :
” تب للغني * يا تابع الزهو و نسى شاين فات * ريت عقلك تايه ما صدّ بك لعمارا* طريق الصلاح إيمارا، و انت مغرّب إيسارا.”
يذكر النجار هارون الرشيد في القسم السابع من القصيدة إذ يقول :
” أيا سيدي هارون الرشيد تملّك ببْها بدور * و معاه كان بونواس * على الزهو و طيب الكاس * و اليوم وين دوك الناس * واين قيس و ابن سهل عشاق لملاح ، واللي بلشواق دْواوْ * غرناطة و من يهواو * غابو بجمعهم گفّاو *وَلَا خلد عثماني * تالله ما يدوم فْ ملكو هيهات * غير نعم الباقي خُذ الصحيح بيمارا. ”
والواقع أن شخصية هارون الرشيد تركت أثرا طيبا في التاريخ و أعطت دروسا و عبرا للأجيال اللاحقة في الحكمة و العزم و القوة.
ولد هارون الرشيد، الخليفة الخامس في الدولة العباسية، ولد عام 149ه – 766م و توفي عام 193ه – 809 م. هو هارون بن محمد المهدي بن عبد الله أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس الهاشمي. كان يكنى بأبي موسى ثم أصبح يكنى بأبي جعفر. ولد في مدينة الري أمه هي أم الهادي و كانت تدعى الخيزران. نشأ في بيت حكم و علم و أدب و ثقافة. من طفولته زرع فيه أبوه حب الجهاد و الشجاعة و الإقدام. تزوج من بنت عمه زبيدة و أنجبت له الأمين و المأمون.
أصبح خليفة على إمبراطورية مترامية الأطراف تمتد من وسط آسيا شرقا إلى شمال أفريقيا غربا. و تعد فترة خلافته أفضل فترات الدولة العباسية التي دامت زهاء خمسة قرون.
أسدى هارون الرشيد خدمات جليلة للأمة نجملها في ما يلي:
* تطورت في عهده العلوم و الآداب و الفنون.
* كثرت أموال الخَراج و بلغت ذروتها لتشكل أعلى مبلغ في تاريخ الخلافة الإسلامية.
* شجع رجال الدولة على بناء الأحواض المائية و حفر الآبار و شق الطرق و بناء المساجد و المباني و القصور الفخمة.
* ازدهرت التجارة بحيث أصبحت بغداد مركزا تجاريا هاما يأويه التجار من كل حدب و صوب.
* أنشأ هارون الرشيد مكتبة ضخمة تضم أعدادا هائلة من الكتب و المخطوطات.
سياسيا استطاع هارون الرشيد إخماد العديد من النزاعات و الثورات داخليا و خارجيا. ولعل أبرز هذه الثورات هي ثورة الخوارج و الديلم وثورة خراسان والنزاع بين القيسيين و اليمانيين في الشام. خاض هارون الرشيد العديد من الحروب مع الروم وقد منحت هذه الحروب فرصة مكنت الخلافة من إقامة دار لصناعة السفن لتقوية الأسطول الإسلامي. كما عقد اتفاقية مودة و احترام مع ملك الفرنجة شارلمان.
غير أن أسوء ما وقع في عهد هارون الرشيد هو ما كان يسمى بنكبة البرامكة. كانت أسرة البرامكة مقربة جدا من الخليفة وقد أعانوه كثيراً خلال حكمه و عين أحدهم وهو يحيى البرمكي أكبر وزرائه. حدث خلاف بين الخليفة هارون الرشيد و أسرة البرامكة قد يكون سببه الوشاة و أصحاب المكر و الخديعة قتل على إثره جعفر بن يحيى البرمكي وقد ندم هارون الرشيد ندما شديدا بعد تلك الواقعة. وقد قال في هذا الصدد : ” لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة و لا رجاء، وددت و الله أني شطرت نصف عمري و ملكي، وأني تركتهم على حالهم.”
تعرض هارون الرشيد لوعكة صحية و أصيب بمرض لم يكن منه شفاء ر بدأت حالته الصحية تزداد سوء يوما بعد يوم. وقد أسلم الروح إلى باريها و هو في طريقه إلى خراسان لوضع حد لتمرد اندلع هناك. توفي في مدينة مشهد في بلاد فارس عن عمر ناهز 43 سنة.