آخر الأخبار

التوازنات الماكرواقتصادية

محمد نجيب كومينة 

َقرات مؤخرا دراسات اعدها مركز التفكير التابع للمجمع الشريف للفوسفاط، الذي يتراسه الخبير السابق في البنك العالمي العيناوي، وشعبة الاقتصاد بكلية الحقوق بالرباط، وما اثارني كثيرا في متن هذه الدراسات هو تسجيلها ان السياسة الاقتصادية التي اتبعت في المغرب مند اعتماد برنامج التقويم الهيكلي في ثمانينات القرن الماضي بقيت امينة لهدف الحفاظ على التوازنات الماكرو اقتصادية، وحرصت على ان تسير السياسة المالية (الميزانية) والنقذية في اتجاه تحقيق هذا الهدف.

و يخفي هذا الحديث، المتدثر بدثار التقنية و المنتمي الى مدرسة فكرية ومنهجية قامت عليها برامج التقويم الهيكلي المتكررة في المغرب مند قرابة 40 سنة، حقائق غير قابلة للاخفاء، لانها منظورة بالعين المجردة و مكشوفة لمن استفادوا ومن عانوا ويعانون. ذلك اننا لو قرانا قراءة غير ايديولوجية وغير مدعية لعلمية مكذوب عليها لوجدنا ان الدولةعملت خلال الاربعين سنة المعنية على تحويل اي تحسن في مداخيل الخزينة او اي وفر ترتب عن تطور الميزانية الى هدايا مجانية للاكثر غنى والى وسيلة للمزيد من تركيز الثروة في ايادي محددة، اخذا بعين الاعتبار ان الدولة تغني من تشاء وتجعله يرتقي السلم و تنبذ من تشاء وتخرجه من الدائرة الضيقة بطرقها. ذلك انها اتجهت، بعد الاعفاء من الضريبة الفلاحية لعقود الذي استفاد منه اصحاب الفيرمات والزراعات التصديرية وما شابهها وليس الفلاح الفقير الذي لا منتج ضريبي له، اتجهت الى تخفيض الضريبة على الشركات تدريجيا من 48%، لدى احداث هذه الضريبة التي جمعت ضرائب كانت معتمدة من قبل، الى اقل من 30% حاليا، مع تمتيع راس المال بحقوق خصم وغيرها تجعل الناتج الفعلي يقل عن هذه النسبة كثيرا في حال ما اذا لم تصرح الشركات بالخسارة، وهناك عدد كبير منها صرح لسنين بالخسارة وبقي مع ذلك قائما وبقي اصحاب راس المال يبنون الفيلات ويشترون السيارات الفارهة ويقضون عطل مكلفة في الفنادق الفخمة في ابعد نقطة في الارض، ولا يقولن لي احد من الاحاد، ممن يستغبون العقول، ان هذا التخفيض غايته تخفيف العبء الضريبي عن المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي استعملت كحمار يركب ظهره لخدمة الثروات الكبرى.، وغير خاف ان تخفيض الضريبة على الشركات قد رافقه مسلسل اخر تمثل في توسيع المصاريف الضريبية، اي الاعفاءات الضريبية ووقف استيفاء بعض الضرائب …، التي وصلت الى عشرات المليارات من الدراهم، والتي كانت الشركات العقارية و الضيعات الفلاحية و المناجم اكبر المستفيدين منها وليس الدقيق والحليب الطري اللذان يثاران الى جانب مواد اخرى. لدر الرماد في العيون، ورافق تخفيض الضريبة على الشركات ايضا، وبشكل يتحدى الشعور الجماعي بالغبن، توزيع الريع على النافذين والاقوياء بشكل لم يسبق له مثيل، و دخلت الخوصصة في اطار قسمة. الثروة العمومية وتوزيع الريع اكثر. مما كانت عملية تحرير للاقتصاد، و ااصبح من الواضح ان الصفقات العمومية المطبوع تفويتها بفساد تسير بذكره الركبان هي ايضا وسيلة لاغناء الاغنياء و تمكينهم من فرص لمراكمة المزيد و الصعود اكثر. وفي نفس الاتجاه سارت الدولة عندما رفضت دائما، وبشكل حاسم وحازم، رفض الضريبة على الثروة ومظاهرها ولو في حدود دنيا، بينما المعروف ان هذه الضريبة معتمدة في بلدان عريقة في الراسمالية والليبيرالية، وايضا. رفض الضريبة عن انتقال الارث عندما يكون في مستويات معينة، ورفض فرض الضريبة على القيمة المضافة بمعدل 30% على ما يسمى بمواد اللوكس كالسيارات الفارهة، التي يصل ثمن بعضهاا الى مئات ملايين الدراهم وللبعض هوس باقتنائها حديثة كانت او قديمة، و المجوهرات و اليخوت والطائرات الخاصة وغيرهامما لا يمكن لامثالي من المحسوبين على الثلث الذهبي ان يعرفوه.و كان مثيرا ان الدولة مارست نوعا من الخداع على مستوى الضريبة على الدخل ايضا، بحيث ان اكبر مستفيد من المراجعات التي عرفتها هذه الضريبة هو المداخيل العليا التي انخفض المعدل المفروض عليها الى 38% مقابل 50% ثم 44% سابقا، والمثير ان من يخضع لهذا المعدل فعليا هم بعض الموظفين ووالاجراء والمتقاعدين االذين تقتطع لهم الضريبة من المنبع، و لا تعتبر مداخييل اغلبهم مداخيل عليا مقارنة مع مدراء الابناك و المؤسات العمومية وشركات التامين…وبطبيعة الحال الفائزين بارباح الشركات و اصحاب الفيرمات والمقالع و اصناف اخرى من الريع، ولاحديث عن مداخيل المخدرات والخمور والرشاوي التي تندرج في اطار اقتصاد سري يؤدي ضرائب لا يشملها القانون ويمنعها القانون في المادة الاولى من قوانين المالية. وقد رفضت الدولة على مدى السنوات الفائتة احداث معدل في حدود 45% الى 50% على بعض المداخيل العليا فعلا التي قد تصل الى مئات الملايين، بل الى الملايير سنويا، وهي معدلات تقل عن معدلات تطبق او طبقت في بلدان راسمالية، وهناك اليوم اتجاه الى عودتها حيثما خفضت، مع فرض ضريبة اضافية على ما بات يعرف بالارباح الزائدة sur profits الناتجة عن استغلال وضعية خاصة كالوضعية التي يعيشها العالم حاليا.

مقابل كل الامتيازات التي وفرتها الدولة للثروة والاثرياء اتجهت الى رمي العبء الضريبي على استهلاك المواطنين، بحيث اصبح المستهلك، كيفما كانت سلة استهلاكه، يؤدي 20% للدولة. فالفقير الذي يذهب الى سوق ممتاز لشراء فخد دجاجة وكيلو بطاطس و بصلة و بعض الحاجيات الاساسية الاخرى يكتشف ان الدولة اقتطعت من طاجينه 20%، و مالك داسيا التي ينقل بها ابناءه الى المدرسة ويذهب بها الى العمل يكتشف انه يؤدي للدولة 60% كضريبة على القيمة المضافة وضريبة على الاستهلاك الداخلي، و يرتفع مايؤديه للدولة بالارقام المطلقة كلما ارتفع ثمن البنزين، و المقترض من البنك او شركة سلف يؤدي بدوره للدولة، بالاضافة الى الفوائد و الريع الذي تستفيد منه شركات التامين المرتبطة بالبنك او شركة السلف، حتى ولو كان القرض المحصل عليه لشراء براكة يطلق عليها اسم سكن اقتصادي، ولا بد من الاشارة في هذا السياق الى الجريمة التي ارتكبت في حق المتقاعدين عندما امرت الدولة الصندوق المغربي للتقاعد بانهاء اتفاقه مع الابناك، بحيث قامت هذه الاخيرة بفرض فوائد ربوية على المتقاعدين و سلمتهم لشركات التامين لتنهبهم كما تشاء دون ان يثير ذلك احدا، مادامت الشركات المالية هي الرابحة.

لقد اتجهت الدولة الى نقل العبء الضريبي الى الاستهلاك، اي الى اغلبية المواطنين الذين يتم اقتطاع 20% من قدرتهم الشرائية وتتقلص قدرة الكثيرين منهم عن الاستجابة لحاجياتهم المعيشية الاساسية، و ما تسميه الحكومة باصلاح ضريبي وتقليص لعدد معدلات الضريبة الى اثنين ترتب عليه غالبا نقل عدد من المنتجات والخدمات من معدل منخفض الى معدل اعلى، وكل ذلك يتم من اجل توفير المزيد من المداخيل للخزينة التي يترتب عليها دائما وباستمرار اتخاذ اجراءات ضريبية اضافية لفائدة راس المال والثروة والاثرياء.

هل هذه دولة اجتماعية ام دولة مغرقة في التوحش في خدمة طبقة، او بالاحرى طغمة متمكنة من الثروة والسلطة والنفوذ، لها مشروع يقوم على اساس توريث الثروة والسلطة والنفوذ لقلة محظية والفقر والحرمان والحكرة للفقراء، غير عابئة بخطر ذلك على التعايش والاستقرار على المدى البعيد.

وسنرى لاحقا كيف ان الدولة اختارت مند ثمانينات القرن الماضي ان تبني مجتمعا طبقيا مفككا بداية من المدرسة، وذلك لتعويد ابناء وبنات النخبة المعزولين على الشعور بالامتياز والعيش في غيتوهات معزولة وتعويد ابناء الفقراء على تقبل وضع الدونية والحكرة في مدرسة عمومية دفع بها الى الانهيار.

بناء التوازنات الماكرو اقتصادية تم على هذا الاساس الهش، لذلك تبقى هشة ومعرضة للاهتزاز في اي لحظة .