آخر الأخبار

حكاية قميص عربي

محمد خلوقي

أ تذكَّرُ ذلك اليوم الذي مر فيه من امام معرض الملابس وألقى إليَّ بنظرة اعجاب حتى كدتُ ان أتهاوى عن موضعي ، بل ورجع القهقرى، وتفرَّس شهية في شكلي دون حياء ، حتى كاد نسيجي ان يتبعثر من شدة الخجل ، ومن بين تلك النظرات ادركتُ ذوقه وعشقه لما انا عليه من شكلي التقليدي الفضفاض ، و لوني القمحي الصافي ، واستمرت نظراته بضعَ ثوان ،ثم غادر المكان في خطى ثقيلة ترافقها إلتفاتات متقطعة.. حتى غاب طيفه عن المكان ، وتركني في ترقُّب وانتظار لعودة ثانية او ثالثة ، وأحسست انه لو كان بامكاني الكلام لعبرت له عما أصابني من نظراته الساحرة و العاشقة، والتي أحيت في دواخلي إحساسا بالحب من اول نظرة.
وظللت اليوم بكامله لا ارقب الا طيفه ولا أبالي بنظرات غيره، وحلق بي الهيام حتى تصورت نفسي بين يديه ، يلامس تقاسيم جسدي، ويشم عطري ..ويفتح أزراري بلطف .. ورأيْتني ألْتحف جسده المكتنز لحما ..وأغطي صدره المُشعَّر ، وأتدلَّى مُدلَّلَة على بطنه الأكرش ، وارتاح لساعات طويلة بقربه ، غير مبالية بِقَرٍّ او بِحَرٌٍ ، بل انزعج حين يفارقني ، وينزعني عن جسمه ، ليتوجه الى سرير نومه .
هكذا قضيت يومي على ايقاع الحلم والتخيل ..حتى جَنَّ الليل ،وأنيرت اضواء الشارع ، وتكاسلت حركة المارة ..وانا بمكاني المعهود معلق ومعروض ، هكذا كان يومي الذي يشبه سابقيه ، تتقاطر علي الوفود تلو الوفود، وترمقني عيونهم ، او تكاد تلامسني ايديهم ، لكني في هذا اليوم بالذات لا أرغب ولا أرقب أو اترقب الا عينَ ويد من احببتُ .
وما ايقظني من احلامي الوردية الا يد صاحب المحل ، وقد امتدت دون إذن الى نسجي الرقيق ، فحملني من موضعي ، وسار بي خطوات وهو يبتسم الى ان وضعني بين يدي زبون اراد ان يشتريني كلباس ،يستر به كتلته اللحمية ، وبدأ هذا الجلمود يضغط علي صدري وظهري بعنف ، كأنه يريد شراء إطار عجلة مطاطية ، و كنت ارتعش وانفاسي تكاد تحتبس وهو يفتح أزراري بعشوائية وغلظة حمقاء ..، وما كاد يَهُمُّ بلبسي -دون رغبة مني – حتى جاءه خبر عاجل من هاتفه المحمول ، فانصرف على إثره مذعورا ، بعد ان تركني قطعة مكمشة ومبللة من عرق يديه الوسختين، فتنفست الصعداء وأحسست ان القدر قد خلصني من مصير مجهول كنت ساعيشه، دون رغبة مني او اختيار . و هدَّأ التاجر من توثري ، وأفرخ روعي حين بدأ في تنظيفي وتجميلي، ثم سار بي الى منصة العرض ، وفي هذه اللحظة بالذات حدثت المفاجأة الكبرى
نعم حدث الرجاء المنتظر ، إذ بالحبيب المرغوب فيه ، يدخل المكان ، ويسأل التاجر في توتر عن قميص واسع فضفاض ، قمحي اللون قد كان معلقا بمنصة العرض ..
فما كان جواب التاجر إلا ان وضعني بين أحن وألطف وأرق يدين لامَستْني طوال فترة عَرضي بالمحل ..كان ينظر الي وهو يبتسم ، ويقول لتاجر الملابس :
– مرّ اليوم بكامله وانا أُفكر في هذا القميص ، واشتهي ارتداءه ، فقد أعجبني شكله ، ولونه ونسيجه ، وأعتقد انه على نفس مقاسي .
واستمر يتحدث عني باعجاب ، الى أن وجهه التاجر الى ركن صغير مخصص لتجريب وقياس الملابس ، وسابقا كنت اختنق داخل هذا الموضع الضيق ،حين يختلي بي بعض الزبناء الثقلاء او الفضوليين ،ليجربني على جثته بنوع من الشدة والعنف ، ولكني هذه اللحظة ، وانا مع من احب ، احسست ان الركن الصغير صار قصرا واسعا ، فدخلناه سويا ، وأشعل الحبيب الاضواء ،وهو يمسكني بلطف ورقة رومانسية جد عالية ،ثم نزع ثوبه القديم ،وأنا انظر اليه باستحياء -والحقيقة ان كل ذرة من خيوطي كانت تشتهي جسده ، و تلذذ رائحة عرقه – فلبسني برفق وتوأدة ، و راح يمرر أنامله على نسجي الحريري ، ويزيل ما عَلِق بي من غبار ..ويسَّرِّح ما صار بي من انكماش ، وظل كذلك حتى انه لم يقوَ ان ينزعني من فوق ظهره ، وكانه احس بشدة ارتياحي و وقوة ارتباطي به .
كانت من اجمل اللحظات التي عشتها معه ، ولن استطيع نسيان تفاصيلها الصغيرة والممتعة .اخرجني الحبيب من منصة العرض ،
وخرجنا معا ،في تلك الليلة الصيفيية متلاصقين متلازمين ، كنت أشعر واتلذذ بدقات قلبه ،وأتحسس أنفاسه العطرة ، وأنتشي فرحا حين كان يمرر كفه الناعم على نسيجي ، ويدندن بقربي باحدى أغنيات سيدة الطرب ام كلثوم .. ( انساك يا سلام ..) ..كان يمشى الهوينى ونسيم المساء يصافحنا في رقة واعتدال ..وكان وجهه الصبوح وضَّاحٌ ، وثَغْره باسِمُ ..كان في قمة الارتياح والسرور ..نعم ما اجمل ان تكون سببا في ادخال الفرحة على من تحب !!
لكن وللاسف الشديد، فان هذا التوافق لم يستمر طويلا ، اذ بدأ يتسرب اليه النفور مني ،خاصة بعد ان تحسنت اوضاعه المادية بطرق ملتوية كنت شاهدة عليها ، دون فهم او ادراك تفاصيلها ، فصار يتردد على اماكن اللهو والسهر دون ان اكون باستمرار في صحبته باعتباري قميصه المحبوب والمفضل كما كان الامر من قبل ، بل لاحظت تزايد اهتمامه بشكله ورشاقته ، وميله المكثف لممارسة الرياضة ، كما ان نظراته اليَّ على نذرتها اصبحت تائهة وباردة ..لم يعد يلبسني او يلمسني بنفس العشق الذي كان بيننا ،بل كثيرا ما يركنني جانبا معلقة لايام طويلة ،داخل (دولاب) حجري مظلم ومقرف برطوبته العالية ، والتي تكاد تخنقني بنفس القدر الذي  أمست تمزقني فيه الشكوك والحيرة .. ما الذي حدث ؟؟ فبعد ان كنتُ أميرته ورفيقته الفاتنة ،صَيَّرني اليوم أسيرته الباهتة الضلال !!، وجعلني سجينة مع اثوابه البالية المتسخة ، لم يعد يعيرني كبير اهتمام ، وهو الذي كان من قبلُ يتحرق شوقا لمعانقتي، ويستعجلني من مكان التنظيف والكيِّ ،ويسْكُب عليّ أشكالا من العطر قبل ان نخرج سويا، لنجوب معا شوارع المدينة دون ملل أو عياء .. أينما سارَ سرت ُبجانبه.. !! وأي موقف وقف َيجدُني معه ..!! وإن غرق َكنتُ طوق نجاته .. وإن عرقَ امتصصتُ بلله  ، وإن ارتعش حضنتُه برفق حتى ينتعش ويعود اليه دفْؤُه، ثم نواصل المسير ..!!
ما الذي يحدث ويصير ؟؟ هل فَتَر حبه تجاهي ؟؟ هل استَبدل بي  قميصا آخر ؟؟ تساؤلات تنهشني في صمت ،ولا أجد من يشاركني هوس غيرتي وحيرتي ، ولكني سرعان ما أتراجعُ وأهمس في داخلي:
(كفاك حمقا ايها القميص العاشق ، إنما هي أضغاث شكوك وأوهام .)
وبقيتُ على هذا الحال مدة من الزمن الى ان جاء ذاك اليوم المشهود الذي تاكدت فيه من صحة شكوكي ..
كان الفصل ربيعا يُغري بالتنزه ، ورجع على غير عادته مبكرا ،وسمعت ايقاع خطوه نحو الغرفة وكأنه لحن غرامي يتسلل الي نسيجي ويطرب خيوطي ، وسرقت -قبل ان أراه- من الامل حلم اللقاء والتلاقي مرة اخري بمن أحببت و هويت ، وظللت انتظر طلعته وسط دولابه الاسمنتي..ليحررني ولو للحظات وجيزة من هذا الأسر ..
لكن الصعقة والصفعة التي تلقيتها كانت كافية كي توقظني من حلمي، بل ومن وهمي ..وذلك حين دخل علي الغرفة دون ان يتكلف جهد النظر الي مكاني ، فوضع على السرير قميصا جديدا ، ثمَّ همَّ بفتحه ولبسه بنفس العشق الذي عاشه معي من قبل ، وأنا أرقب حركاته ونظراته باستحياء واستغراب وتحسر ، كانت الاسئلة تدور من حولي دون ان تسكن او تهدأ ، وكأنها خلية نحل او خرير نهر :
– لماذا لم يحترم خيوط قماشي الذي صار باهتا دون ألوان ؟؟
لماذا لم يستحضر وهج الشمس المحرقة التي كنت أواجهها من اجله ، كي لا يصاب جلده باي أذى؟؟
لماذا لم يُلْقِ بالاََ لانكماشاتي وتمزقاتي المتعددة بسبب ذاك العرْك والفرك والكيِّ ، و كل ذلك من أجل أن أبقى له – كما يهوى- ثوبا فتيا نقيا ؟؟
واليوم يستبدل بي قميصا من أقمصة (الموضا )الجديدة، وكلها ضيق و توشيات وزركشات ،لا تتحمل لا غسيلا ولا كيّا،ولا طيّا.
وهذا الواقع الذي عشته ،بقدر ما سبب لي الما وحزنا ، فقد كان في نفس الوقت مدعاة للضحك والسخرية ، خاصة حين رأيت ُالرجل الذي عشقته بصدق ، قد صار يجهد ذاته ويلزم بدنه فوق طاقته العمرية ،كي يجعله مناسبا لقميصه الجديد ، دون ان يستفيد من المثل الشعبي القائل ( لْبس قدك يواتيك )
ولم يقف الامر عند ارتداء قميص واحد ،بل صار في كل مرة يصطحب معه قميصا من نفس الاشكال الممسوخة ، وربما باثمنة باهضة ، لكنها تصير -كسابقاتها من القمصان غير الاصيلة – باهتة الظلال ، واهنة الخيوط، ربما قد لا تقاوم حتى غسلة او غسلتين .
هكذا كنت أشاهد كل ما يحدث ، دون ان أفهم سر تفاهة الرجل وتهافته ، واستهلاكه  الجنوني والمفرط، لقمصان دون مستواه سنا او شكلا .
ونهشتني تساؤلات عديدة ابغي من وراؤها كشف الحقيقة :
هل سبب ما صار اليه الرحل هو عُري تكويني في بنية هذا الجسد؟
ام هو خوفه وتخوف من فعل الزمن ؟
ام أنني خدعت في احاسيسي ؟ وحلمت اكثر مما يجب ؟
ام اننا جميعا مجرد قمصان نُصنع فقط للزينة ، فنُلبس فترة ثم نُطرح أرضا دون اي اعتبار ؟؟
تساؤلات مؤرقة ومقلقة لم أنتبه اليها منذ بداية نسجي ..ولا حتى بعد نهاية حياكتي.. ولا حتى حين قُدِّمت كبضاعة معروضة في محل ذاك التاجر الذي لا هدف له سوى ان يبيعنا ويحقق كسبا ماديا
واليوم بالذات عرفت عَفَن وأنانية مثل هذه الذوات .

———
ملاحظة
لقد استعملت القميص تارة بصيغة المذكر وتارة بصيغة المؤنث ، والامر ليس خلطا او سهوا ، ولكن القميص في اللغة العربية يستعمل مذكرا كما قد ياتي مؤنثا .
المرجع
معجم متن اللغة-أحمد رضا-صدر: 1377هـ/ 1958م

شاهد استعماله مؤنثا بيت من شعر جرير:
تَدْعُو هَوَازِنَ والقَميصُ مُفَاضَةٌ
تَحْتَ النِّطَاق تُشَدُّ بـالأَزْرار