آخر الأخبار

دفاعا عن مغربية الملحون

مثل هذه المواضيع لا تستهويني كثيرا ، ولقد حرمت على نفسي بصفة التأبيد المستمر أن أخوض في المواضيع السِّجَالِية التي لا تستقر على رأي واحد ، ولا يُرجَى منها نفع طائل للملحون وأهله ، بالإضافة إلى أنني أملك يقينا كاملا على أن فن الملحون هو فن مغربي أصيل وقح تبعا لشواهد النصوص ومفرداتها ومجالاتها الزمكانية ، وأعلامها ، وشعرائها ، وهو الجانب الذي كنت أحبه وأحبذه في معالجة هذه المسألة ، فالاستنجاد بالنصوص ، واستنطاقها ، وإخراج منها الدلالات القوية على مغربية الملحون في مستويات تهم المعجم ، والتركيب ، والمصطلحات ، والبناء ، والصور ، والإنشاد ، والمضامين الدالة على البيئات النفسية والفكرية ، والإشارات الحاملة لمعالم الزمان والمكان ، والأجواء المغربية بصفة عامة…… ستجعلنا مثل تلك المقاربات في منأى عن جميع المناوشات التي تتخذ من العاطفة والتعصب ، والأراء الذاتية لبعض المعالجين متكأ خاطئا للادعاء الكاذب في هذا المجال .

ومع ذلك سأسير في جزء من خطوات ردي على بعض نهجهم ، وأقدم لهم نصا كتبه المحقق العلامة الحسن السائح في المقدمة التي وضعها لرحلة خالد بن عيسى البلوي الفتوري أو القنطوري عَلَمِ الدين الأندلسي من أهل القرن الثامن الهجري ، وقد سمى رحلته بهذا الإسم : ( تاج المَفْرِق في تَحْلِيَةِ علماء المشرق ) وضمنها وبالضبط في الصفحتين : 93 – 94 نجد هذا العنوان المثير : ( الرحلات في أدب الملحون ) وسأنقله للقارئ الكريم كما هو تعميما للفائدة : ( نجد في الشعر الملحون المغربي قصائد طويلة تدخل في فن الرحلات ، ولكنها رحلات خيالية ، لأن الشاعر كان يصور أنه يوجه طائرا لزيارة مكة والمدينة شوقا إلى البقاع المقدسة ، وقبر الرسول ، فيصف الطائر المراحل التي قطعها…. واحيانا يوجه الطائر إلى حبيبه البعيد فيصف ما وجده في طريقه من البلاد ، وتسمى هذه القصائد في لغة الملحون بالورشات ( هكذا ولعله يقصد الورشان بالنون ) والحمام ، والمراحل المطلعة ، ويعنى الشاعر فيها بوصف البلاد ، وأحياء المدينة التي يتخيل أن المعشوقة تركت عند حبيبها ( حِليا ) أو ( خلخالا ) أو ( دمليجا ) أو ( دواحا ) أو ( سالفا )…وللشاعر المدغري قصيدة مشهورة ، وكقصيدة الطرشون لابن علي ) .

سياق هذا النص مفيد جدا ، ويقدم لنا جوابا شافيا ، إذ أضحى الملحون في مكانة الكمال والتمام ، يصلح لأن يُستشهد به في فن الرحلة لدى المغاربة والأندلسيين ، وأضحت له كذلك تقاليد تفرده عن بقية الفنون ، وتجعل له درجة خاصة بالشكل والمضمون ، أَهَّلَته لأن يصبح رديفا لفن الرحلات ، وواحدا من روافده اليانعة على غرار ما ازدهر من فنون في القرن الثامن الهجري الذي كتبت فيه أهم النصوص المعتبرة في فن الرحلة ، وعلى رأسها رحلة ابن بطوطة .

ويبقى لي مع ذلك شوق كبير إلى طرق الإثبات العلمي الواضح ، وتتمثل – كما قلت – في دراسة النصوص ، وأبعادها المختلفة على صعيد دلالات اللفظ ، والتركيب اللهجي ، والإيقاعي ، ومسارح الانتشار في مختلف مظاهر البيئة المغربية ، وبهذا سنتمكن من الدحض النهائي لكل المزاعم المُشَكِّكة في مغربية فن الملحون بالدليل العلمي الصافي والدائم .

عندي ملاحظة بسيطة على مستوى الإنشاد ، فالمغاربة يقيمونه على نوع من التناغم والتكامل بين الكلام والموسيقى ، وقد يختلف ، أو يتنوع بحسب ذبذبات الصوت ، ومقتضيات اللفظ الدال ، وتمثل المشهد ، أو المشاهد داخل القصيدة الوحيدة على أكثر من ناحية عند المنشد الفاهم والمقتدر ، وهي أشياء لا نجدها عند الشعوب الأخرى التي يغلب على إنشادها طابع السرد لفقرات متتالية ، تذكرنا بسرد قارئ مبتدئ ، لا ينتبه لمقاصد الكلام وتنوع أقسامه من ناحية المعطيات الصوتية ، والتمثلات الفكرية وما تستوجبه على مستوى الجسد والحركة والارتسامات الصامتة المعبرة ، أما التتبع الإيقاعي فحدث ولا حرج ، لا يسلم من هذه اللخبطة منه إلا ما يتعلق بنبرات الصوت التي ترجع إلى طابع اللهجة الفطرية أكثر من طابع القصيدة والإيقاع ، كما هو الأمر عندنا .

وهذا استنتاج يحسن للاستدلال به خاصة أننا نقف على اختلافات مهمة في الأداء الصوتي والمقطعي والموسيقي بسبب اختلاف الجهات الجغرافية في طبوعها الصوتية المتعلقة بمخارج الحروف ، وبدلالات الألفاظ ، وبالنغم الموسيقي المصاحب ، وبتقاليد الإنشاد المتحكمة ، وهو اختلاف وتنوع لم يأت من فراغ ، وإنما من تأثير أجواء المناطق ، وتنوع أسسها الكلامية واللحنية .

ولن يتأتى الاختلاف والتنويع ، وبهذا المقدار إلا إذا كان الفن أصيلا في تربته ، له قرون عديدة من الأقدمية على مستوى الإبداع والانتشار في جهات جغرافية متعددة بالأداء الصوتي ، والطبوع الإيقاعية المناسبة لكل منطقة نظما وإنشادا .

الدكتور مولاي علي الخاميري