آخر الأخبار

فرقة ابن عربي : إبداع مغربي عالمي 

إدريس الأندلسي 

الطرب تفوق النغم  و الصوت الجميل و قبول غير متفق عليه بين الأرواح. ليس كل من غنى أو يغني مطربا  .و هكذا قارن بعض أهل العلم قوة امتلاك الأشياء أو الأفكار و قالوا “ملك فلان شيئا  كما ملك ذو الصوت المطرب”. و هكذا امتلكت فرقة إبن عربي المغربية الطنجاوية قلوب و أفئدة عشاق المحبة في كثير من بقاع الأرض. أكاد أدمن على سماع منشوداتها و يزيد سماعي شوقا إلى الغور في معان  و أوزان  و طبوع  و مقامات موسيقية تسبح بين المغرب و  الأندلس و بلاد فارس  و مصر  و حتى من تموجات “البوليفوني ” في مجال تنوع و تعدد والأصوات و انسجامها. 

في حي القصبة بطنجة ترعرعت مواهب  افضت إلى بحث علمي قدمته أسرة لخليع في شخص إبنها أحمد و تم قبوله و تقديره في جامعة السوربون بباريس نال به درجة الدكتوراه بعد سنين من الدراسة.  كما افضت الى منتوج فني جميل. سكن صوت د أحمد اسماع المغاربة في مساءات إذاعة البحر الأبيض المتوسط الدولية.  أصبح صوت أحمد لخليع موعدا للتربية الصوفية الواعية و الراقية فكريا و صار الموعد المسائي فرصة للتمتع بالذكر دون بهرجة  و لا جذبة  و لا إلغاء للعقل في التعبير عن المحبة الجميلة. و استمرت التجربة في هدوء و أستمر الجهد في الارتقاء بالطرب الصوفي إلى مراتب عليا يحترم القلب  و العقل  والوجدان و يقدم الدعوة إلى الإقبال على جمال التعبير الموسيقي.  أضاف عبدالله لخليع نبرات صوته الغريب الذي

 ليبعث بالمستمع إلى غربة جميلة تحث على اكتشاف خبايا  و أسرار حاول كبار و كبيرات سبر أغوارها.

رغم أن ال لخليع اختاروا إسما كبيرا لفرقتهم  و هو الصوفي الكبير صاحب الفتوحات المكية إبن عربي، لم يقفوا عند إبداعات صادقة لهذا الصالح الذي خاطب إبن رشد  ،وهو في سن صغيرة، على أن اعمال العقل لا يكفي للوصول إلى  الحقائق.  و لأن الصوفية يخاطبون الأرواح فقد تعددت منابع مواهبهم و أرسلوا إلى البشر كثيرا من البشائر.  و لأن الأمر فيه ما فيه كما قال جلال الدين الرومي،  و لأن الحلاج قال ما قال و اعتبره أهل الذكر محبا لا مشركا  ،فقد ظل منبعا للمحبة الخالصة. 

و لأن فريد الدين العطار أبدع في منطق الطير حتى ساوى بين سعي مخلوق إلى حقيقة  و إلى آلاف الطيور التي قطعت صحاري  و بحار و لم يتبقى منها إلا عدد قليل لم تصل إلى حقيقة بل إلى حقائق، بل إلا لجزء منها. و غاب شمس الدين التبريزي عن طالبه الإمام الرومي و تولد عن فراقهم بحر من الرباعيات  و الرقصات التي تعيش في يومنا  وقد تستمر إلى مدى بعيد. و قال  ” مولانا جلال  الدين ” ما لم  يقله  قبل  فراقه  لشمس الدين  التبريزي  و وولدت  آلاف الأبيات  الشعرية  التي  ضمها  المثنوي.  و لأن التصوف له جذور في بلادنا فقد تعايشت منه فيه صنوف بين العامة  و الخاصة.  و تضخم  أثر الطرق الصوفية التي تقدس موقع الشيخ و تعذب المريد  و تصل بعلاقتهما إلى مستوى التقديس.  و كل هذا فيه ما فيه من اغتناء و مراكمة للثرواث  و تبخيس لعمل العقل. 

أحب الفكر الصوفي الذي لا يربط علاقة بين الشيخ  و المريد. المسألة الصوفية قضية بحث عن الحرية المطلقة لا عن روابط تعيد إنتاج عقلية تبعية و استغلال. كيف ارتضي لغيري تقبيل يد شيخ أو ابتلاع “ريقه ” أو  تقديسه  و كبار المحبين و من بينهم “رابعة العدوية” تؤكد أن محبة الخالق هي أسمى خير يطمح إليه العابد  المطمئن الولوه بحب الرحمان.  ” فلا الخير لي في ذا و لا ذاك لي … و لكن لك  الخير في ذا و ذاك…”. و كل هذا جمعته فرقة إبن عربي في ما راكمته من إبداع في دنيا الجمال السماعي. 

كم دهشت للإقبال  الذي قوبلت به في لبنان  و مصر  و الإمارات  و سلطنة عمان وغيرها من البلدان.  كم كنت سعيدا  و أنا انتشي ببراعة مؤسس الفرقة في تذكير الأفئدة  و العقول بتاريخ بلادنا و علماءها  السياح في أرض الله الواسعة.  زرت ضريح المرسى ابو العباس في الإسكندرية  و مزار السيد البدوي بطنطا  و عرفت أنهم كغيرهم اختاروا السفر  و السياحة بحثا عن علم  و حقائق.  

إنها سياحة  و سباحة و كثير من البحث في الأسرار.  قال الحلاج ما قاله  عن  اقتران ذكر الرحمان بأنفاسه و رغم ذلك لم يفهم من كلامه إلا ما يخاطب نزعات لا علاقة لها بالروح الذي تبعث فيه زخم الذكر حتى عند شربه لماء في كأس. 

و قال جلال الدين الرومي ، الذي يحبه كثير من الموحدين أبناء الديانات الإبراهيمية ، جواهر الكلام. و قال إبن الفارض كثيرا من صور العشق الإلهي كادت  أن تفسر على أنها تعبيرات حسية.  

و لكن غالبية الغلاة لا زالت تتخذ اللغة العربية عدوة  و البلاغة عدوة  و الفنون عدوة  و الألوان عدوة.. و أصبح سمو الرسالة المحمدية لديهم  وسيلة  لتبرير همجية الأمية  و اغتيال ملكات العقل التي وهبها الخالق لمخلوقاته.  الدين ليس سجنا للعقول و لكنه مرتع خصب  للحرية في كل  المجالات.  الجاهل بقواعد المحبة  و الفاهم للمقاصد لم يدخل ابدا للمدرسة  و لم يجهد نفسه للدخول إلى دار  المعرفة.  و لكل هذا أجد في فرقة إبن عربي بابا للدخول بكل توقير و تواضع إلى عالم الأنوار.  نعم ” أحبك حبين ” ،نعم  شربت مدامة قبل أن يخلق الكرم” ، نعم لقد عبر المحبين عن محبتهم بكثير من التواضع.  

و لهذا أكره القبح الفكري الذي يبسط كل شيء  و يضعه في اطار ميكانيكي يربط فعلا بفعل دون أن يوضح العلاقة بين الفعلين. تغييب العقل جريمة مروعة كما هي جريمة الحكم على الإبداع الموسيقي من طرف الرعاع. زد في عطاءك يا  عبدالله الخليع  رفقة حكيم التعبير الراقي الذي يحمله أخوك الأكبر و الكبير أحمد الخليع.  و الدعوة عامة إلى السماع لفرقة إبن عربي التي تحمل الأرواح إلى درجة الاطمئنان بكثير من الصدق و التي” تدين بدين الحب أنى  توجهت  ركائبه ”  و تتغني بقسم الحلاج حين قال ” والله ما طلعت شمس  و لا غربت…الا  و حبك مقرون بأنفاسي” و تختتم عربون المحبة بالدعاء الذي يتوجه إلى مبدع السموات  و الأرض.  

و لأن الجمال له معابر إلى القلوب، فقد  اختارت فرقة إبن عربي الإبداع سبيلا إلى التعبير على سمو خطاب الروح. وقفت جماهير كثيرة و صفقت لفرقة مغربية حاملة لثقافة  و إبداع  و فن  و رقي  و ظلت ساحة العروض الفنية ببلادنا  فقيرة  و مختصرة على ما يخاطب الجسد على قنواتنا العمومية.  و قد يتحداني أصحاب البرامج الشعبية و يشعلوا في وجهي أرقام المتابعة للتجهيل الممنهج  و لن انافسهم لأن  المال له سطوة على العقل  و على الثقافة.  جمال الموسيقى الصوفية لا يحتاج إلى العدد  و لكن إلى العدة.  و هذه الأخيرة هي التمكن من العلم  و الإدراك  و المعرفة الأكاديمية  و ليست انتسابا لأسرة  و انتشاءا بآلاف المريدين  و قرابين على شكل أموال  و هدايا لأحفاد شيخ يعيشون على الريع بإسم انتماء لاسم إنسان .