آخر الأخبار

غياب المثقف المناضل الفاعل عن المشهد… نذير شؤم 

 إدريس الأندلسي

لو احصينا عدد من حصدوا بمثابرتهم شواهد جامعية  و كتبوا اطروحات  و ساهموا في كتب جماعية  و نطقوا بالشهادة على ان دورهم هو بناء الوطن  و توعية شعب،  لوجدنا أنهم آلاف. ناضلوا بما لديهم من أفكار و حضروا تجمعات  و اجتماعات  و ساهموا في كتابة تقارير و دراسات مجدية ماليا و نسي جلهم أن الأهم هو مغادرة   ابراجهم و الدخول إلى فضاء الواقع للإسهام في تغييره وظل القليل منهم يحمل هما  لوطن رغم كل ألم به من مآسي.  حين كان رأسمال المعارضة ثمين بفعل عمال و فلاحين    و صحافيين  و مسرحيين  و من لهم تاريخ في مقاومة.   الاستعمار،  كانت المساهمة في أي عمل “نضالي” في الثانوية  و الجامعة تسمو بصاحبها إلى درجة ” المناضل” حتى  و لو تعلق الأمر بمجرد حضور باهت في مرحلة   عابرة. فكثير ممن استولوا على صفة   ” المثقف المناضل”  عرفوا  أن وراء الظهور آفاق  و إمكانية الإستفادة في الدنيا قبل قيام الثورات البروليتارية  و الاشتراكية و الشعبية  وصولا إلى بناء دولة تقودها طلائع التغيير.  واستطاعوا إتقان طرح الأسئلة أو لنقول ” الاشكاليات ” و تمتعوا بفراغ حل بسوق المناظرات  و الندوات  و المؤتمرات  و فتحت في وجه بعضهم أبواب الاغتناء بالدراسات التي وضعت على الرفوف بعد استهلاكها و المشاركة في ندوات بيترودولارية اعفتهم من اللجوء إلى البنوك لبناء فيلا معتبرة جدا و قضاء مآرب أخرى .  و في المقابل  طبل بعضهم  للقذافي  و صدام حسين  و حتى لأمراء  و شيوخ الخليج دون نسيان بعد اصنام المنظومة السوفياتية.   ولم تمسهم حسرة الندم   بل زادت شهواتهم بالاقتراب من ذوى القدرة على فتح صنابير رزق ساقه الله. 

انكشف ذلك  المناضل المثقف  و ربط شبكة علاقاته بأصحاب القرار لأن “أخلاقه” تفصل بين الإختلاف السياسي و العلاقات الإنسانية النبيلة.  فرح ببحبوحة الحصول على منصب  و مال تدفق بكرم حاتمي. 

 في أوج بناء  مشروع ديمقراطي  يساري ،أصبح الدخول إلى دار الراحل “سي إدريس ” محطة لإعلان النوايا  و الحصول على المزايا بالنسبة للبعض.  فتسلل الشك إلى الأخ المناضل” و “الرفيق” وبدأ تصدع العلاقات إلى أن تم الطلاق البين بين الرفاق و تفرت بهم السبل وخفت فعلهم و فكرهم. و مهما طال الزمن فسيظل سيف الحقيقة مسلطا بكثير من الرفق  على من أراد أن يغير الواقع  وتأسيس علاقات اجتماعية  ،فلم يستطع الصمود أمام قوة غيرت مساره من الألف إلى الياء.  و ظل التابعون يسبحون في بحر أوهام  و كانت قوة الأمواج أقوى من فعلهم في الواقع.  رمى المرحوم الحسن الثاني بالكرة في أيدي من خبروه  و خبرهم  و قال  ” انقذوا المغرب من السكتة القلبية” و قدم مشروعا بكثير من ذكاء رجل الدولة  وقبله رجل دولة آخر و كانت بداية مرحلة التوافق بعد سنوات من الصراع الذي ضيع   الكثير من الفرص في مجال الإقتصاد و الديمقراطية على البلاد. فتح المسؤولون الجدد اوراشا و لم يستكملوها  و وضعوا سياسات قطاعية  و لم يضمنوا لها شروط التقييم  و النجاح. نجحوا في  بعض  الخطوات  و اخفقوا  في  أخرى. و حين قيل لهم استمروا  تحت إمرة وزير أول  تقنوقراطي أو انصرفوا  قالوا سنستمر  و لو أن لنا ملاحظات عن المنهجية الديمقراطية.  

و غاب وهج القيادات  و ضاع حلم التغيير  باتباع وسائل الكفاءة التكنوقراطية  و الإختيار  السياسي المرتبط بمشاريع شخصية و لكن مسلسل إعادة الهيكلة ، بخطاب  آخر، استمر من خلال  الموانئ  و الطرق  و الصناعة  و الفلاحة  و تراجع دور من حمل بعضهم هم التغيير المجتمعي.  و بعد ذلك  تراجع الوهج  و سادت منهجية “أرض الله الواسعة ” التي نطق بها رجل كبير مثل عبد الرحمان اليوسفي  و يا ليته ما نطق بها.  وبقيت قلة تحاول الاجتهاد في طرح الأسئلة فقط دون أن تنهك نفسها في  البحث على الحلول  .   ورفع  شعار “اليوم دخول إلى مربع الأمان”  و غدا أمر  . غريب ما  آلت إليه حياتنا السياسية  من اضمحلال  و إتقان للمتاجرة بالتزكيات الانتخابية  و وضع النساء  و الرجال غير المناسبين في الأماكن غير المناسبة  .  و لم تفلت نخب ترفع يافطة ماض يساري  من ممارسة التعتيم على ممارسات  كانت تذمها بالأمس. 

 و الغريب ان بعض ممن يعتبرون أنفسهم محللين سياسيين  و خبراء التحليل السوسيلوجي  و  ماسكي مفاتيح فهم  ميكانيزمات  سير المجتمع  ،لا زالوا في موقع القرار  ولم  يحدثوا  ولو جعجعة في طحين وبعضهم شاخ و لم يزدد زاده الفكري إلا بعدا عن فهم الواقع رغم تشبته بشعار قيادة البحث العلمي الفارغ.  رأينا كم من يساري  و إسلامي  سلمت لهم مقاليد التغيير  و استمروا لسنوات  في التدبير  و كانت كلماتهم الأخيرة أنهم لم تكن لهم سلطة لإحداث التغيير.  المقصود من تباكي البعض” هيمنة ” الدولة  على القرار.  و لهؤلاء  يمكن القول لماذا اكلتم من رزق ساقه ألله  ووجهتم  النواصي  إتجاه قبلة التنصل من أداء الواجب.  لو كانت لكم الجرأة لقدمتم استقالة جماعية  ووفرتم علينا وقتا ثمينا .

صحيح أن التغيير تقوده نخبة  مقتنعة بأهداف معينة  و لكن  التجربة أبانت عن الكثير من  الهفوات.  لدينا أحسن وصفة للدخول في مصاف الدول  الصاعدة  و لكن لدينا أيضا كوابح تقيد  أساليب عملنا  للتخلص منها.  لكل ما سبق  وجب التذكير بمضمون العمل السياسي  و هو الإلتزام  و الإرادة   و الكفاءة و الإبتعاد عن خلط المصالح الذاتية بتدبير الشأن العام. رئيس حكومتنا أراد أن يكون زعيم حزب  ، و هذا حقه  .

 و حلفاؤه ” الأغلبيين “يبحثون عن  ملاذ  يحميهم

من عاديات الزمن الانتخابي ولو على حساب متطلبات غد صعب.  و لكن الأزمات  لها حكم فاضح للمؤهلات الحقيقية للنخب المثقفة  و المقبلة بنهم على التدبير  العام  و ذات القدرة على الإكثار من الوعود . وتتم تعرية الواقع بعد فوات الأوان ثم يستلم أهل المصالح الكبرى مفاتيح الحفل الانتخابي و يضعون القوانين التي تحمي مصالحهم  و يرشون الفئات الفقيرة  و الوسطى ذات الدخل المحدود ببعض الفتات.  و لعل هذا الفتات جزء من “نجاح” الحوار الاجتماعي ومخرجاته التي حسبت لصالح الحكومة قبل عيد العمال الذي مضى . و يدور هذا الحوار في ظل مسلسل تهاوي هيئات  الوساطة  الإجتماعية  و حضور  ملفت  للنظر للتنسيقيات التي لا يمكن التفاوض معها كما يتم  ذلك مع النقابات. و ستستمر، في ظل  هذا المناخ ، حركة التكنوقراط في إشعال فتيلة الإحتقان   بشكل بطيء  يضعف كل آليات الحوار المؤسساتي و من ضمنها أحزابنا  و نقاباتنا.  لا يمكن لعاقل أن يفرط في دور الوسيط السياسي و  الإجتماعي لأنه يقوم بدور الحارس على الأمن الإجتماعي و استمرار الدفاع على حقوق تتعلق بأسعار و تكاليف  و أجور.  و في ظل ما يدور، يغيب المثقف  و السيد المناضل و قد  يكون قد إختار تقاعدا مريحا او غير مريح و ساهم  في  تغييب الخلف السياسي. وحتى لا يفهم الكلام في غير محله،  أدعو القارىء إلى التفاؤل لأن شباب هذه البلاد حي  و ذو إرادة لبعث نفس جديد في كل المجالات. جيلنا مكثر في الحديث عن الماضي بما فيه مسرح الهواة  و الجمعيات التربوية  و الشعراء  و أندية السينما  و نوادي الرقص الكلاسيكي  و العصري،  لكنه ينسى أن تربة الوطن ليست ميتة و أن خصوبتها دائمة الإنتاج المثمر. شاهدت اليوم صورة تشير إلى ميلاد “إتحاد جديد لليسار ” فحزنت لأن من التقطهم كاميرا مناضلة تجاوزوا زمن العطاء و خارت قواهم و هم قلة…و لكن أرض المغرب “ولادة” .