آخر الأخبار

مراكش الف حكاية و حكاية لعبد الله العلوي

كان اصحاب الحلقات ينعتون ساحة جامع الفنا  بجـامع الربح ، لا نهـم يكسـبـون ( يربحـون ) معيشتهم مـن خـلال نشاطهم فيهـا كمـا يبـدو ، يبـدأ ” الحلايقـي ” صـباحه أو مساءه في الساحة خالي اليد ، فإذا به وقد انہی ” عمله ” يحصل على مبلغ محترم من المال ، فكيف لا تكون ساحة للأرباح ! والأمر مرهون بالموهبة التي يتمتع بها والتي تجعل المتفرج لا يبخل عليـه . قـد يكـون المبلغ ضئيلا لكـن مع تعاقب الجمهـور طـوال الـوقـت يصير لا بأس به ، كان العديد من ممارسي الحلقـة ينفقـون مـا يكسـبون في الإدمـان ، وآخرون لا يكادون يؤمنـون ضـرورات العيش . ونادرا ما تحول فنان الحلقة إلى شخص ثري . تختلـف الحلقـات فـي السـاحة بين الحلقـات الصباحية ، والحلقات المسائية ، والحلقات الليلية ، وإن كانت المسائية هي الأكثر استقطابا للجمهور خصوصا مابين 3 و 8 مساء ، أما الليليـة فتـقـوم علـى جـزء مـن الساحة فقط ، وتستقطب -عادة- هواة الغناء ، وتختلط بباعة الطعام الذين باتوا يستولون على الساحة ليلا حتى الفجر ، ويستفيدون منها ماليا أكثر من الفنانين ، حيث تباع جلسات المطاعم بمليوني درهم وأكثر أحيانا ، مما يجعل الساحة فضاء يختلط فيه ما هو تجاري بما هو فني وهذا أحد أسرار الاستمرار . كاد نشاط الساحة أن يلغى نهائيا بعد الاستقلال ( 1956 ) ، حيث اعتبرت بعض أجنحة الحركة الوطنية في مراكش منطقة وفضاء الساحة ، ومحيطها وكرا للفساد والفواحش ، فأغلق حي البغاء عرصة موسى- الذي كان شبه مقنن ، وأغلقت الحانات ودكاكين بيع الخمر ، كما تم إغلاق الساحة وطرد ” الحلايقية ” . وزعم المعارضـون للساحة أن مراكش لـم تـك تعرف الحلقة أصلا ، وإنما الأسواق في البوادي ، يقيمها فنانون الحلقـة جـزء من جوالـون / متجولون ، وأن تأسيس حي البغاء كان السبب في إنشاء رديف هو ساحة جامع الفناء . ويروى أن بعض فناني الحلقة كسروا أجهزتهم ، كما قتل مروض الأفاعي ثعابينه احتجاجا على الإغلاق ، وبعد مدة لا تتجاوز شهورا عادت الساحة إلى أصحابها وازدهرت بدون حانات وخمور وبقاء ، فقد قامت بإعادة إنتاج نفسها من جديد ، وعرضت الفضاء الذي كان يحيط بها بفضائها الداخلي ، ثم ذاعت شهرتها وزاد الإقبال على زيارتها ، وجاءها ” فنانون ” من كل أنحاء المغرب مارسوا أنواعا جديدة من الفرجة في الحلقة . وحتى بعد إزلة محطة الحافلات التي كانت جزءا من الساحة ، وإحدى وسائل جلب الجمهور إليها ، ونقلها إلى مكان آخر ، فإن الساحة توسعت ولـم يؤثر عليها غياب الحافلات ، فالجمهور واصـل زيارته للساحة ودعمه المالي ( للحلايقيـة ) . هـذا الـدعم يتمثل في أداء مبلـغ مـالي إلى ” الحلايقي ” مع كل ” بروفـة عـرض مشهد لا يتعدى ربع ساعة . وقد يغضب فنان الحلقة ويطلب من الجمهور أداء مساهمة مالية ، أو تغيير الحلقة ، وإن كان الأمر اختياريا إلى حد ما دون إجبار . ولكن من بين خمسين أو مائة شخص ، لابد أن يؤدي عشرة أو عشرون على الأقل الواجب في كل مرة ، أو الانتقال إلى حلقة أخرى . هناك نوع من الحلقات

جمهورها مواظب تقريبا في حلقات الحكاء أو الحكي . فهي تحترم حضور جمهورها باستمرار لمتابعة الحكاية التي قد تستغرق سنة في روايتها مثل سيرة عنترة أو الف ليلة وليلة وغيرهما وجمهور هذه الحلقات يعتبر نفسه أرقى جماهير الساحة ، باعتبار البعد الثقافي ” و ” التاريخي للمحلفة أما حلقات الوعظ والإرشاد فتختف من حيفات ضخمة إلى حلقات صغيرة …. قد تكتفي بالوعظ فقط ، وقد تتجاوزه إلى بيع أدوية أو أحجية تقي من الحسد و العقرب وتجلب الرزق لا يمكن حصر الحلقات في الساحة ، فهناك حلقات دائمة ، وبعضها مؤقت إذ قد يلجأ ” الحلايقي إلى إبداع شكل جديد لم يسبقه إليه أحد ، كأداء أوغناء أغنية واحدة والحديث عنها ، أو أداء لعية ما تستغرق مدة قليلة . لمبتكر فرجة جديدة أو يغادر الساحة بانها بعد أن حقق دخلا أو غرضا ما تأسس بجانب الساحة -كما أشير سابقا- ” السوق الجديد ” ، واصطفت الدكاكين في الوجبة ، لأصحاب الحجامة أو العلاقة ، وفي الداخل باعـة الأطعمة ، وفي أقصى السوق مقهى السوريون – نسبة إلى جامعة باريس، وهو أول مقهى يباع فيه الإسفنج ليلا في مراكش ، إذ لم يكن يباع إلا صباحا فقط ، إلى أن بادر سفاج ” السوربون ” بيع الإسفنج ليلا . وضعت في مقهى السوربون كـراس طويلة ، ويباع الكأس من الشاي أو القهوة مع اسفنجة واحدة بدرهم أو أقل ، وكان يمتلئ بالأجانب في الستينات والسبعينات من القرن الماضي وبدعاة الهبيز ، الذين أقام بعضهم الحلقة لسبب ما ، وقـد تـحـول مقهى السوربون فيما بعد إلى مقهى ” آرگانا ” ، كما تحولت دكاكين الحلاقين إلى ” بازارات ” لبيع المنتوجات للسياح ، كما تحول مقهى آخر يطلق عليه ” ماطيش ” < = الطماطم > كان يبيع الحريرة مع الخبز إلى ” بازار ” أيضا ، والمقهيـان كـانـا مـن أهـم معـالم الساحة في عهد الاستقلال . في الجانب الآخر من الساحة يوجد مقهى فرنسا ، وأمامه تقريبا باعـة الشـواء في زاوية الزقاق . فالساحة مؤلفة مـن جـزأين : جـزء شمالي واسع ، وجزء جنوبي أقل اتساعا ، ويختص كل جانب بنوع خاص من الحلقات ، ويعرف الجمهور عادة أين تقع الحلقة التي يرغب في مشاهدتها . كما يمكن ولوج الساحة من مسالك عديدة من حي درب ضبشي ، ومن حي زنقة الرحبة ، ومن روض الزيتون القديم والجديد ، ومـن بـاب فـتـوخ ، ومـن السمارين ، ومن الكتبية للقادمين من جليز ، ومـن حي القصبة عن طريق شارع مولاي اسماعيل ، وهذه المسالك تتوفر على ممرات أصغر يمكـن الـولـوج منها إلى الساحة . فالتموقع الجغرافي للساحة سواء كان بتخطيط أو صدفة يجعلها مفتوحة على جميع المناطق ، وتؤدي إليها كل الطرق والأحياء في المدينة القديمة والجديدة ، مع سهولة ويسر في الولوج إليها . هكذا وفرت الساحة الفرجة ووفرت الغذاء ، واستطاعت أن تلبي مختلف الرغبات لزوارهـا الـقـدامي والجـدد ، وظلت تنتج وباستمرار الحلقات وتبـدع أشكالا فنية لتلبية ذوق الجمهـور : الأغاني ، والحكايات ، وترويض الحيوانات كالحمـام ، والقـردة ، والحمـار ، مـع القمـار ، والرهان ، إلى جانب الوعظ والخطب التوجيهية و …. مما لا يحصر في مقـال واحـد حتى لعبة الكولـف تـم تحجيم مسالكها ” بحـفـرة ” واحـدة ، والملاكمة ، والمشاهد الحـواريـة الجـادة أو المسلية بين ابن المدينة وابـن القـريـة ، أو بين الشـلح والعروبـي ، حـول مسـائل عديدة كالحيـوانـات والحشرات ، وأصلها ، قد لا نستطيع حصر عدد ( الحلاقي ) وتنوعها في الساحة ، لأن هناك حلقات استمرت لشہور وتوقفت ، وأخرى استمرت سنوات وعقودا . وهناك اختلاف بين الحلقـات فـي العهـد الاستعماري 1912-1956 ، والحلقـات في فجـر الاستقلال ، ثـم أثنـاء الستينات والسبعينات والثمانينات حتى الألفية ، لأن الساحة تلبي رغبـات الأجيـال ، وقـد تنتهي الحلقـة بوفـاة مبـدعها ولا تتجدد ، وقد تتجدد بأشخاص آخـريـن قـادمين من البـوادي المحيطـة التي تنشط الحلقـات فـي أسـواقها الأسبوعية . ولاشك أن وجود محطة الحافلات بالقرب من الساحة كان عاملا في تيسير انتقالها ، كمـا حـدث بباب دكالة خلف أسوار المدينة حيث توجد مواقف الحافلات التي تربط مدينة مراكش ببعض الضواحي ، مما ساعد في انتشار حلقات الفرجة لمدة زمنية اختفت بعدها كليا من هناك . واقتصرت الحلقات على ساحة جامع الفناء وحدها ، لأسباب تنظيمية وإدارية على الأرجح ، ويبدو من آراء بعض الذين عايشوا ” الحلقة ” أنها ارتبطت بحركة التنقل بين المدينة والباديـة ، ومجـاورة السـاحة لمحطة الحافلات . فمدينـة مـراكش شهدت عبر تاريخهـا حلقـات الـوعـظ والإرشاد الديني ، أما حلقات الغناء والألعاب ، فكانت تقام في الأسواق خارج المدينة وليس داخلها ، ومع بداية الهجرة نحو المدينة وتأسيس الساحة وإنشاء محطة الحافلات في الثلاثينات من القرن الماضي قربها ، فإن فـنـاني الحلقة انتقلوا إلى الساحة بصفة دائمة ، وبدأت الساحة تتشكل كإحدى أهم الفضاءات المحتضنة لهذا النوع من الاحتفال الذي استوطن الساحة على الدوام .