آخر الأخبار

في المسألة اللغوية – 1 –

محمد الحبيب طالب

بدأت مداخلتي في المناقشات التي نظمتها “الرؤية التقدمية” حول، “اللغة والثقافة”، بواقعة شخصية انحفرت في ذاكرتي منذ الستينيات من القرن الماضي. والواقعة، أنني قرأت لسلامة موسى، في أغلب الظن، جملة أدهشتني حينها بتقابل وجناس محموليها. تقول: “اللغة فكر صامت والفكر “لغة صائتة”. فلا لغة إذن بدون فكر، ولا فكر بدون لغة.
لكن هذه الحقيقة الصائبة، على الأقل، منذ أن أبدع الإنسان اللغة وتطورت معه، قد تحمل، لذهنية رمزية وغير مفاهيمية، إدغاما يأكل فيه كل من المحمولين (فكر صامت، ولغة صائتة) موضوعه أو مسنده (اللغة والفكر)، لغياب التمييز الفاصل بينهما. ولهذا، وجب التمييز والفصل بين اللغة والفكر، قبل الربط الجدلي بينهما.
(1)
وحسبنا، هنا، أن نذكر ببعض الضوابط التي تعيد النقاش إلى نصابه المعرفي القويم، ولمواجهة الخلط والمثالية اللغوية القديمة والحديثة. وأكتفي منها بالتالي :
أولا :الإمكانيات الذهنية للبشر واحدة، وإن اختلفت وتعددت لغاته بالآلاف. ولغاته مشروطة بإنتاج وجوده الاجتماعي، وليس العكس.
ثانيا :اللغة مادة الفكر (وليست هي الفكر عينه)، وواقعه المباشر (وليست هي الواقع). وليس بعالم اللغة يتحدد عالم التجربة، بل بعالم التجربة يتحدد عالم اللغة.
ثالثا:ا للغة محصورة بمعجمها، أما حقل الخطاب، أي تركيب المعاني بالألفاظ، فمفتوح إلى ما لا نهاية. فالتمييز واجب بين اللغة والخطاب. وبهذا المعنى “اللغة حيادية” إزاء لا نهاية تعدد معاني الخطابات.
رابعا :لا إمكانية للمثاقفة بين ثقافات الشعوب، لو كان الفكر تحده وتُعينه لغته. فالتثاقف، وإن كانت وسائطه لغوية، فهو شأن فكري أولا وأساسا.
خامسا : اللغة مرآة الثقافة، وليست الثقافة مرآة اللغة. ليست اللغة هي التي تصنع الثقافة، بل الثقافة هي التي تصنع اللغة من خلال صنعها نفسها بالأداة التي تمدها بها اللغة. والواقع أن أزمة المجتمعات العربية، بما فيها أزمتها اللغوية، تعود إلى أنها (من حيث إنتاجها لوجودها الاجتماعي) مستهلكة، وليست منتجة للتقدم.
انتقيت هذه الأحكام النظرية من مصدريها وبحرفيتها تقريبا. وأنا أعرف أنها تحتاج لتحليل وشرح يطولان.. ومع ذلك، فهي كافية لكي تنبه القارئ إلى أن الخوض في نقاشات الأزمة اللغوية، لابد له من الحسم في تلك الأساسيات.. لأن غياب تلك المنطلقات يسوق حتما إلى استنتاجات فاسدة.. وأدعوكم إلى العودة للمصدرين، ففيهما نقاشات تفصيلية وغنية وراهنية للمسألة اللغوية والعربية بالتحديد: (نقد العقل العربي-لجورج طرابشي- الجزء الثاني) ونقد العقلانية العربية – لإلياس مرقص). أما استخلاصي من تلك الإحالات النظرية، فهو كالتالي : الأزمة اللغوية عندنا، ليست في اللغة العربية حصرا، حتى ولو كانت بحاجة إلى إصلاح دائم. فهي لغة يُشهد لها برصيدها الحضاري الهائل. وهي تتطور رغم كل المعيقات. ولها كل القدرات الذاتية لاستيعاب معارف العصر. الأزمة الأساس هي في أوضاع التأخر المجتمعي العام، وفي تقهقر الإرادة السياسية والحضارية للرقي باللغة في سياق تصور مجتمعي وتحرري شامل.
وبصرف النظر عن المغالطات الأيديولوجية والسياسية التي تحاول أن تختزل الأزمة التعليمية في تعريب كان جزئيا وارتجاليا وعابرا، وكان بلا أفق استراتيجي. تعريب ما كان له قطعا أن يثمر، وجميع الأبواب أمامه موصودة، في ظل فرنْسَنة شاملة لكل المرافق الأخرى، وفي ظل نموذج تنموي يتمسك بالتبعية اللغوية وينمي الفوارق الاجتماعية والمناطقية والثقافية.. بصرف النظر، أكتفي بطرح هذا السؤال الفاصل: هل من الديمقراطية أن يحرم شعب بكامله من اللغة التي تنتمي لحضارته وثقافته، أليس هذا من خصوصية الفوارق الجوهرية بين الديمقراطية والليبرالية عندنا ؟!