آخر الأخبار

سلبيات لحون الموسيقى المعاصرة

في حديث مع صديق من كُتاب الأغاني المعاصرين بعد أن زودني بنسخة أولية لأغنية جديدة من تأليفه تمجد عمل الشباب ، وتنوه بمواهبهم وقدراتهم ، وتدفعهم للكد والعمل ، وبعد أن استمعت إليها في بث تجريبي هاتفته مبديا رأيي في نقطتين أساسيتين :

1 – قلت له إن اللحن على اعتبار أنه وضعُ صوت أو تركيب موسيقي مناسب للكلمات لإنتاج فعل الغناء ، أو التغني بالمضامين لم يتوفق فيه الملحن ، فاللحن المسموع عبارة عن جمل موسيقية متوالية ومكررة ورتيبة ، لا تحسس المستمع بنبرة الكلمات القوية ، ولا باختلافها في درجات الأداء الوظيفي للمعاني المطروحة ، وهنا طلب مني الصديق المذكور الاستفاضة أكثر ، وتبين لي مع إلحاحه في الطلب أنه يشعر بمثل ما أشعر به وهو صاحب النص ، ولكن ربما تنقصه المعارف الأدبية بالنصوص الفنية ومستلزماتها ، فقلت له : إن هذا الوضع عام في لحون الموسيقى المعاصرة ، وأنه يدل على أن الملحنين أضحوا جهلاء بمضامين الكلام ، وبطريقة نظمه ، وكيفية تركيب معانيه ، وعندما يقرؤونه لا يفهمونه ، ولا يقفون على مراميه ، وقوة كلماته ، وبلاغة صوره ، ومعالم جمله ، وحبكة كل كلمة ومقطع في الأداء ، ولا يتملكون في النهاية دراية واضحة تمكنهم من معرفة بناء ملامح الموضوع ، والطامة الكبرى أن الموسيقى تكون مجترة ومكرورة على طول اللحن ، مما يشي بنبرة الصناعة والتصنع الآلي بما توافر من تقنيات في قوالب اللحون المتشابهة .

قديما كان مؤلف الكلام ، ومؤلف الموسيقى والمغنون يجلسون فيما بينهم جلسات عديدة لقراءة النص وفهمه ، والتعرف على مضامينه ، والتذاكر في طبوع الموسيقى الأولية ، وكثيرا ما كانت نتائج الجلسات تفضي إلى تبديل كلمات وأسطر وأبيات ، أو الضرب عنها بصفة نهائية ، ومثل هذا كان يحدث على مستوى اللحون واختيار الأصوات المناسبة للأداء على ضوء القواعد الفنية المعروفة .

واليوم وبأسف كبير اختفت كل المظاهر المذكورة ، وأضحى اللحن عبارة عن صناعة مخدومة من طرف الآلة أكثر من الإنسان ، فكثر التشابه ، وتكررت الإيقاعات على طول الأغنية ، ولم تعد للكلمة قيمة تذكر على مستوى اللحن الذي لا يراعي دورها في تأدية المعاني ، واختلافها من ناحية البناء العام ، فماتت نصوص جميلة كثيرة بسبب جهل الموسيقيين بدلالاتها المتعددة ، ووظائفها المتنوعة ، والمرامي الكلية النفسية والعاطفية والجمالية .

هنا سمعت صوت الصديق ينطلق من جديد لتحيتي على ملاحظتي ، والبوح بما كنت استشعرته منه آنفا عندما طلب مني التوضيح أكثر ، وقال في نبرة منكسرة : لقد أحسستُ بمثل ما أحسستَ به ، ولكن كنت أحتاج إلى شرح بسيط وقوي وواضح كالذي بُحتَ به أمامي ، لأن صداقته للملحن ربما كانت حاجزا في بلورة ذلك الإحساس في موقف معبر عنه ، مما دفعني إلى أن أطلب منه توخي الحذر في تعامله مع الموسيقيين والملحنين ، وضرورة إبداء رأيه من البداية وبشكل صارم ، وأن يكون له موقفه الخاص بعد عملية التلحين ، وألا يقبل بأي تغليف موسيقي أو صوتي من ناحية الأداء ما لم يتناسب مع نصوصه وتشكيلاتها اللفظية ، ومضامينها الفكرية ، ومقاصدها الجمالية 2 – وقفت معه على صوت الشابة المصرية التي أدت الأغنية ، فقد كان قويا وصافيا ، واستطاعت أن تتعلم اللسان المغربي بنسبة كبيرة ولكن لم تستوعبه بكامله بحيث ظلت بعض المناطق في الأداء تُترجِم صعوبة الصوت في التجانس التام بين النطق والجملة الموسيقية بسبب اختلاف النبرة المصرية مع اللسان المغربي في معطيات كالجهر والهمس والتفخيم والتسكين والإفصاح…..وهذا يظهر جليا عندما يُقارن أداء المطربة المصرية ، بأداء المساعدين المغاربة ، فالمستمع يحس معهم بانسياب وعفوية في الأداء ، وسلاسة في الصوت بلا تغير ، أو تمحل في عملية النطق .

وهذا الاختلاف الملاحظ ما بين أداء المطربة المصرية والمرددين المغاربة ما كان ليبرز لو تنبه إليه الملحن ، وأدمج في لحنه ما عساه أن يغطي على هذه الفلتات والاضطرابات الفطرية في أداء الأصوات المؤدية للأغنية حتى لا يشعر بها المستمع في نهاية الأمر .

إن العمل الموسيقي هو تأليف وتفاعل وإحساس وجداني وفكري وجمالي ، وكل تأليف يحتاج إلى براعة وحيل من صنع العقل والخيال والذوق الفني للفنان الموهوب حتى يستطيع أن يخرج عمله في أبهى ما يكون من صور الجمال والأحاسيس المتدفقة بينه وبين جمهور المتلقين ، وينجح في مهمته الفنية من جهة الأداء والتأثير النفسي المرجو .

هكذا كانت الأغنية العربية ، وهكذا كانت الأغنية المغربية ، ونجاحهما وخلودهما يعود بالدرجة الأولى إلى أخذ كل تلك المكونات بالحسبان ، وكانت ثقافة كاتب الكلمات أو الشاعر في نهاية المشاورات هي ثقافة وإحساس الملحن والمغني ، وفوق كل ذاك كانت النفسيات الثلاث تتلاقى عند نقطة من الفهم للنص بعد مخاض طويل وعسير من القراءة والفهم والشرح والتفسير والملاءمة بالتغيير أو التحوير والحذف على كافة المستويات المذكورة ، فلم يكن عمل الكاتب وحده قادرا على صنع الأغنية بمعانيها العاطفية والفكرية والجمالية ، وكذلك الأمر بالنسبة للملحن والمغني ، كان التآزر والتفاهم والتفاعل هو الشعار الجامع لمجهوداتهم المتداخلة على عكس ما نراه اليوم من جهل وتسرع ، وقطيعة معرفية تتمدد فيما بينهم ، فضاع بذلك الإبداع الحقيقي ، وأضحت الأغنية المعاصرة عبارة عن لحون خاوية ومتهالكة ومصطنعة ومكررة ومتناقضة فيما بين أضلعها الثلاث : الكلمة ، واللحن ، والأداء .

الدكتور مولاي علي الخاميري