آخر الأخبار

بين الحداثة و التحديث

بين الحداثة والتحديث
بقلم محمد خلوقي

********************

تعد الحداثة والتحديث من المفاهيم المتداولة في شتى الميادين الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والفنية …وتطرح إشكالات عديدة ، حول المفهوم والأسس والعلاقة ، فماذا يقصد بالحداثة والتحديث؟ وما هي عناصر الإتقاق والإختلاف بين المفهومين ؟
حين نقف عند مفهوم الحداثة والتحديث في ابسط دلالتهما ، سنجد أن الحداثة هي رؤية حياتية تسعى إلى تطوير البنية الذهنية والسلوكية للإنسان ، أما التحديث فلا يخرج عن كونه عمليات ،تطبيقية تراكمية ،تسعى الى تحقيق النماء الإقتصادي والسياسي والتكنولوجي التي يحتاجها المجتمع . وهكذا نستنتج من التعريفين السابقين ان كلا من الحداثة والتحديث يلتقيان ويشتركان في الرغبة في تطوير وتغيير فكر ونمط عيش الإنسان ، ويسعى كل منهما لجعله مستقلا ،وقادرا على التحكم في مصيره، وتطويرحياته نحو الأحسن والأفضل.
لكن بين الحمولتين اختلافات تمس الرؤية والتصور تجاه اولويات وحاجيات الشخصية الانسانية هي اختلافات مهمة ولا يمكن للدارس تغافلها ، ذلك أن الحداثة تسعى إلى إحداث تغيير جوهري في نمط تفكير الإنسان ،وفي بنيته الذهنية ،و السلوكية ، ولتحقيق ذلك فقد ركزت في فلسفتها على أسس ومقومات فكرية أولها : الحرية والعقلانية ، حيث اعتبرت أن الإنسان المستعبد والخاضع لسلطة غير سلطة العقل ،لا يمكنه ان يحقق أي تحول أو تطور في تفكيره وتصوراته ،سواء لذاته أولمحيطه ، وخير دليل على ذلك ما جاء به مفكرو عصر الأنوار في اوربا إبان القرن 16 و17 م ، حيث نادى ديكارت وغيره من الفلاسفة العقلانيين بضرورة تحرير العقل من سلطة الخرافة والغيب ، وجعل الإنسان كائنا مستقلا ، يعي ذاته ووجوده ، ويعمل على البحث عن حلول لمشكلاته الحياتية .إضافة الى ذلك فقد سعت الحداثة إلى تأصيل قيم المساواة والعدالة واحترام الحقوق،من خلال استبدال قيم الخضوع للسلطة الدينية أو الأبوية او الساسية بقيم وقوانين يتم فيها الاحتكام الى تشريعات ودساتير وضعية تناسب طبيعة الحاجة البشرية ، وتجعله مؤمنا بها ومدافعا عن جدواها لانها ميثاق غليظ ـ يضع الكل امام مسؤولياته ، وحريته في الاختيار مع احترام الاخر في حق الاختلاف والتمايز ،وما حدث في الغرب في القرن 18من ثورة على السلطة الدينية للكنسية ،وعلى الملكية المطلقة ، وتحرير المرأة ، وتأسيس الدولة المدنية القانونية خير دليل على الرغبة الجامحة عند الفكر الحداثي في جعل الإنسان أكثر تحررا وتطورا ومسؤولا عن اختياراته .
اما التحديث فهو عملية تراكمية ، إنمائية تهتم بتطوير الجوانب المادية للإنسان، وتجلت في تحديث نظمه الاقتصادية والسياسية ،وفي تسهيل ظروف عيشه من خلال تطوير الوسائل التقنية التي يحتاجها في حياته ، ولذلك نجد ان المجتمعات الغربية المعاصرة تستلذ الآن بثمار الفكر والسلوك الحداثي ، من خلال ما تعيشه بلدانها من مظاهر التحديث المادي ، ومن ابرز تجلياته : تحرير الأسواق التجارية ،وتطوير الاقتصاد وخلق فرص كثيرة للشغل ، وتشييد المدن العملاقة وشق الانفاق ـ وبناء الطرق ، والاحتكام الى آليات شفافة كالانتخاب والتصويت ضمانا لاستمرارية التداول السلمي والحقيقي على السلطة ، كما أن كل مواطن صار ينعم بالرفاهية في حياته المادية ، بفضل التطور التكنولوجي الذي يسّر الحياة وجعل الإنسان ينعم بالكهرباء، والسيارات والطائرات ، والهواتف وغير ذلك مما جادت به إبداعات العلماء .
والتحديث في المجتمع قد يأتي دفعة واحدة ، وبسرعة فائقة ،في حين ان الحداثة ليست كذلك ، لا تأتي طفرة وفجأة بل تحتاج وقتا طويلا حتى تنغرس و تتجدر بدورها في تربة المجتمع ، كما هو الحال في المجتمع الغربي الذي أخذ وقتا طويلا قبل ان يجني بواكير الحداثة ، مقارنة مع مجتمعاتنا العربية المعاصرة التي نقلت – بسرعة فائقة – الكثير من المظاهر والقشور الحداثية دون انخراط فعلي في بناء الانسان العربي وتنشئته على المبادئ والقيم الحداثية الصحيحة ، وهذا يفسر ان التحديث المادي قد يظهر في المجتمعات المتخلفة عن ركب الحداثة ، بحيث ياتي طفرة وبسرعة لكنه في الواقع لا يعدو ان يكون تقليدا ونقلا بليدا ومشوها ، مثل الذي يستعير حذاء او سروالا من غره فيجده صغيرا او كبيرا عن مقاسه ، ورغم ذلك يتشبت بلبسه قتزداد صورته بشاعة ومثارا للضحك والسخرية .
نستنتج مما سبق ان الحداثة تتفق مع التحديث من حيث الهدف والغاية الأساسية المتمثلة في النهوض بالانسان وتطوير حياته لكنهما يختلفان من حيث الوسائل والآليات ، فالحداثة تركز على تغيير وتطوير روح وفكر وعقل الإنسان ، في حين ان التحديث يسعى لتطوير الجانب المادي والشكلي من حياة الإنسان واعتقد شخصيا أن الرؤيتين مهما اختلفتا وتباينتا من جهة الوسائل فأنهما لا يصلان حدود التصارع أو الخلاف او القطيعة.

بقلم. الاستاذ محمد خلوقي.