آخر الأخبار

اوراق من المغرب الراحل… خواطر مبعثرة

عبد الصمد بوحلبة

عندما حصلت على شهادة الباكالوريا في شعبة الآداب العصرية عام 1991 من ثانوية أبو العباس السبتي بمراكش، بعد أن خسرت نفس الشهادة العنيدة في المحاولة الأولى بثانوية القاضي عياض، إثر وقوعي متلبسا بالغش في امتحانات الموحّد، في مادة الانجليزية! قرّرت تجاهل أحلام والدي الغامضة وتعليماته الواضحة والسفر إلى قلعة السراغنة لأتسجل في “كونكور” المعلمين..كنت قد أدركت استحالة العيش في منزل واحد مع رب أسرة مناضل حزبي ومدير تربوي ومتعصب للأعراف ومحبّ للمعارف مثل أبي! ولعلّ كوني تجاوزت العشرين من عمري، أشعرني آنذاك أن الوقت الأنسب لأرحل أو قل لأستقل بنفسي، قد حان وصار حقا طبيعيا من حقوقي البديهية.. لم أكن عاقا في اعتقادي ولا أريد أن أكون منافقا أو أجرح مشاعر أحد، فقط قررت العيش في هذه الحياة بهذه الطريقة، طريقة العزم والتوكل على الله والاكتفاء الذاتي..مرت اختبارات مباراة الالتحاق بمدرسة تكوين المعلمين بخير، كانت فرص الغش فيها عصية على كل حال! وبعد الإختبار الشفوي، الذي قضيته في التوسل وطلب عدم حرماني من حمل اللقب الشرفي “معلم”، جاءت النتيجة مخيبةً لأملي الوحيد حينذاك، وتمّ إدراج إسمي في الترتيب 11 بلائحة الإنتظار..فبدأتُ مراسيم الانكسار لله والدعاء والحرص على قضاء صلاة الفجر في المسجد مع “الجماعة.”.عفوا مع صفين أو ثلاث صفوف من المستغفرين بالأسحار..واستجاب الله لي ومنحني فرصة التعليم والتعلّم، ومهمة التدريس والتمرّس، ولكن أبي منعني وثيقة “التحوّل” نحو الاستقلال الذاتي، إذ حجب عني رسالة القبول، ولم أعلم بالأمر إلاّ عن طريق ساعي البريد الذي حزن كثيرا لمّا أخبرته أن والدي لا يحترم خدمات البريد ولا يعترف بخصوصية الرسائل الشخصية..شكّل هذا “الحادث” أساس تمزّق أسري جديد وشائع الحدوث والتكرار في التجمعات السكنية التي يهيمن عليها رجال التعليم والأطر التربويين.. آثرت السفر إلى وارززات هروبا من اليأس والكأس والناس.. ولأستطيع أخذ مسافة كافية لعدم رؤية وجه أبي مجدداً.. قضيت أكثر من شهرين أعمل أجيرا في ورش للبناء، بعيدا عن مراكش التي أعشقها وأشقى بنخيلها وخبرتها الليلية.. وعند التسجيل الجامعي، صُدِمت بسحنة أبي التي تعكس تركيزه قبل النطق: “لا..لا..بل عليك التسجيل بكلية العلوم القانونية والاقتصادية لتحصل على الإجازة في الحقوق..أما الدراسات الإسلامية فلا..ثم إننا مسلمون والكتب الدينية والمراجع الإسلامية عندك في البيت..وأما شعبة اللغة العربية فلا أفق لها ولا مجال فيها للتوظيف..!!” هكذا كان منطق أبي وكأن كل شيء يسير على ما يرام..ولا منطق للتيه بين اللف والدوران، أعترف اليوم أنني رفعت شعار “لن أعيش في جلباب أبي” قبل أكثر من عقد عن بداية المسلسل في الشاشة وفي الشارع.. وبعيدا عن اتهام الشرع الصحيح والمنهج القويم، أقرّ بأني دخلت حربا غير مناسبة، من كل الجوانب، لكلا الطرفين..! وربما كنّا (أبي وأنا) نعيش الحياة التي كنا نستحقها معا، في هذا العالم المختل الموازين..لم أكن أعرف أن الأمور تجري كما تشاء، ولا أفهم كيف كانت تصدر عن أبي تلك “الأشياء”.. عشنا معا لحظات جيدة، ولكن المياه كانت لا تعود إلى مجاريها بسرعة..حتى تسرّب العمر والعيش والرضا كما تتسرّب المياه من سيفون المرحاض..!