آخر الأخبار

الفن الگناوي

سعيد عفلفل 

تشكل موسيقي كناوة حالة فريدة في المشهد الفني في المغرب. تاريخيا اتت هذه الموسيقي من قلب الادغال الإفريقية. فالإسم يدل علي المكان، “كناوة” اسم مشتق من غينيا او غانا وهي المنطقة الممتدة من تشاد مرورا بالنيجر و مالي حتي السينغال و غينيا في غرب افريقيا او ما يسمى السودان الغربي. وصلت هذه الموسيقي إلى المغرب مع العبيد الذين كان يؤتي بهم قصد الخدمة في المؤسسات الحكومية او عند الخواص، إذ كانت تجارة العبيد تجارهي رائجة في الماضي.
تحكي موسيقى كناوة قصص العذاب و المعاناة التي كابدها هولاء العبيد في موطنهم الاصلي او هنا في المغرب.

اتى هولاء العبيد بادواتهم الموسيقية: الطبل او الكانكا، القراقش، الكنبري او الهجهوج وبكلام إفريقي يصعب فهمه لحد الساعة. أثناء التواجد بالمغرب، تأثرت هذه الموسيقى بعدة مؤثرات وأخذت طابعا مغربيا صرفا، حيث  تأثرت بالمحيط العربي الإسلامي الأمازيغي الذي عاش فيه هولاء العبيد.

إن موسيقى كناوة المغربية ، بما هي عليه الآن، لا يوجد لها مثيل حتى في إفريقيا السوداء، موطن هذه الموسيقى.
يبدأ حفل “الليلة” بما يسمى “العادة”، إذ يطوف خلاله كناوة بمختلف الازقة و الشوارع رتدين زيهم الخاص وهو عبارة عن “فوقيات” بألوان مختلفة و “طاقيات” مرصعة بالأصداف أو” الودع”. تتخلل هذه الجولة رقصات على إيقاع الطبول و القراقش؛ فأثناء “العادة” لايتم استعمال الكنبري. يتقدم موكب “العادة” مجموعة من الفتيات حاملات الشموع.وحين العودة إلى المنزل، مكان “الليلة” يتم الإستغناء عن الطبول وتعويضها بالكنبري. حيث يشرع “المعلم” الذي عليه ان يكون ملما بجميع مراحل “الليلة”، يشرع بالعزف عليه، في حين تضبط المجموعة الإيقاع بالكف بدل القراقش منشدين مقاطع يغلب عليها الطابع الديني ، في ما يسمى ب
“اولاد بامبرا”. وحين الإنتهاء من هذا الطقس، يبدأ طقس آخر يطلق عليه “النقشة/ “النكشة” يقوم أثناءه كناوة برقصات انفرادية تارة وجماعية تارة أخرى. وبعد استراحة لبضع دقائق، تدخل الليلة الكناوية مرحلة تسمى ب “فتوح الرحبة” حيث يعمل كناوة على تهييئ المكان الذي سيشهد مجريات الليلة، وذلك لإضفاء طابع من القدسية على الجو العام.وهنا يجب التذكير بأن الليلة ما تكتمل ولا تستقيم إلا بوجود “المقدمة” وهي امرأة عرافة تلعب دورا كبيرا في كل مراحل الليلة الكناوية. لتأثيت المشهد يتم وضع طبق أمام “المعلم” يحتوي على مجموعة متنوعة من البخور وأشياء أخرى. إلى جانب هذا تتكلف امرأة تدعى ” العريفة” بالإشراف على كومة من الأقمشة من مختلف الألوان، يرمز كل لون منها إلى “ملك” من “الملوك”؛ وتصاحب عملية التحضير هذه مجموعة من الأذكارو الإنشادات ذات دلالات مختلفة يغلب عليها الطابع الديني ( ذكر الله والصلاة على ا لنبي ). مباشرة بعد هذا يتم الدخول إلى المرحلة المهمة و الأساسية من الليلة. يرتدي المريدون و المريدات (الجدابة و الجدابات) في كل محلة لون خاص بملك من الملوك؛ و الملوك في عرف ومعجم كناوة هم رجال الله، أولياء، رجال ربانيون مؤمنون. ا
فاللون الأسود مثلا خاص بسيدي ميمون / لالة ميمونة؛ والأحمر يرمز إلى سيدي حمو / حمودة ، والأزرق إلى سيدي موسى…الخ. وقبل الدخول إلى الرحبة من أجل الجدبة يتوجب على المريدين التقيد بمجموعة من الشروط منها التخلي على الحذاء وإزالته ووضعه في مكان بعيد عن مكان الرقص ، وذلك تفاديا لتلويث المكان بما علق بالحذاء من أوساخ أو فضلات؛ وعلى المريد أن يجهر بالتسليم ويطلب حماية أهل المكان من الملوك: ( التسليم…طالبين التسليم لرجال الله…..)، ويقوم بعد ذلك بتحية جميع الحاضرين فردا فردا أو جماعة بالتلويح بيده. ويبدأ الحفل / الدردبة على نغمات الكنبري و القراقش بإيقاع بطئ، ثم ما يلبث ان يرتفع شيئا فشيئا ليصل إلى الذروة (الكريشاندو) وعلي هذا الإيقاع الصاخب تجد الجدابة ، نساء ورجالا، قد وصلوا إلى أقصى درجات الإنسجام و الإندماج مع نغمات السنتير وإيقاع القراقش و مع روح المكان العابق بالبخور و الروحانيات؛ وقد تصل الأمور ببعض المريدين إلى حد فقدان الوعي أو ضرب ذواتهم بآلات حادة كالسكاكين والخناجير.
إن المرء ليقف مشدوها أمام هذا المنظر/ اللوحة السريالية؛ يختلط هنا الواقعي بالخيالي. إن هذه الجدبة تعنيه فيما تعنيه تجاوز الإنسان لحدوده، إنها رحيق رباني، انتشاء ، تحرر وشفاء؛ إنها فرح وخلاص وتصفية للذات. تستعمل “الليلة” عادة لأغراض استشفائية أو احتفالا بمناسبة دينية ( عيد المولد النبوي او شهر شعبان مثلا).
تتخد الليلة الكناوية صيغة هبوط/صعود متفاوت الإيقاع و مختلف الحركة؛ يتوشح خلالها المريدون سبعة الوان ( سبع محلات) ، والعدد 7 عدد فردي ؛ للعدد الفردي دلالة دينية: 7 سموات ، 5 صلوات ، الأركان 5 للإسلام ، 99 اسماء الله الحسنى …
تبدأ الدردبة باللون الأبيض، وخلال هذه المحلة لا ينادى على اسم جان أو ملك أو إظهاره وإبرازه أثناء المحلة. إنها تمهيد و تهييئ : بخور ، إنشاد ….حيث يتمحور الكلام هنا (الإنشاد) حول اسم الله المعظم واسماء اولياء الله الصالحين. تتوسط “المقدمة” الرحبة جلوسا وهي متوشحة باللون الأبيض مؤشرة بذلك على ان الجدبة ستكون جدبة اصحاب اللون الأبيض (محلة البويض). إن افتتاح الدردبة باللون الابيض له رمزية خاصة، فاللون الابيض متوافق مع قدسية الفاتحة: فتوح الرحبة. وتتتابع المحلات و الالوان والرقصات و الآهات، لون بعد لون، جدبة بعد جدبة…….تبدأ (محلة الكوحل) أصهاب اللون الاسود بالمناداة على “بلال” او “با بلالي” وهو رمز هذه المحلة المقدس. من اهم ملوك جدبة الكوحل هناك لالة ميمونة لغمامي ، سيدي ميمون ، مرحبا. بعد هذه بالمحلة تستعد الرحبة لاستقبال محلة الزرق ( لون السماء و البحر) واهم ملوكهم سيدي موسى. ثم تأتي بعد ذلك محلة الحمر ” اولاد بلحمر” او كما يسمون اصحاب ” الكرنة”، والاسم يحيلنا مباشرة على الدم و الدبح حيث تتم المناداة على الملوك الحمر امثال سيدي حمو ، سيد كمي ، حمودة…..ويعتبر اللون الاحمر لون العنف الطقوسي لذلك يرتبط حضوره بنشر و إسالة دم الأضحية/القربان ويقترن اسم هولاء الملوك بالكرنة ( مكان دبح الأضاحي ) فهم ينعثون بمالكي الكرنة و “موالين الجناوة الكبار”؛ وفي قطعة سيدي حمو ما يؤشر على عنف هذا الطقس. فالرحبة هنا تتحول إلى “كرنة” رمزية حيث يتم الرقص/ الجدبة بالسكاكين / الخناجر / الكمية. بعد محلة الحمر العنيفة المدرجة بالدماء، تنزل الليلة الكناوية على ادراج محلة ولون وملوك الخضر (اللون الأخضر)، لون الشرفاء و الأولياء: مولاي ابراهيم ، مولاي عبد الله بن حساين…الخ. ومع بزوغ الفجر يستقر مآل النزول عند محلة اللون الأصفر، لون ملوك الإناث وطقس مرح خفيف كأن الروح تستريح من هول تلك الليلة الصاخبة وتطرد الشرور والمآسي. فهذه المحلة تعطي الإنطباع على أننا في حفلة عرس أكثر منه ليلة كناوية، بحيث يختفي أثر البخورويتم الرقص بحضور ملوك إناث : لالة ميرة ، لالة مريم الشلحة ، لالة مليكة بلونها البنفسجي ، لالة هاوة ” مولات الضو” لالة رقية ، لالة عيشة….هكذا يسدل الستار على ليلة صاخبة حافلة ببزوغ فجر يوم جديد أو ولادة جديدة طاهرة بعدما تخلصت الأجساد و الأرواح من دنس وثقل الحياة.
تعيدني هذه الأحداث إلى طفولتي في نهاية ستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي حيث كنا نحضر هذه الليلات الكناوية في حومة باب احمر وفي درب القايد رحال على وجه التحديد في ضيافة ‘المقدمة” لالة شامة وزوجها “المعلم” الطيب رحمهما الله. كما كنا نحضر هذه الليلات في تامصلوحت بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف. ولازلت أذكر الوجوه التي كانت تؤتث هدا المشهد من رجال ونساء كما أذكر مجموعة من ” المعلمين” : مولاي الطيب بصوته المنحوح ، المعلم الكصاب وآخرون.
لابد كذلك من استحضار أسماء معلمين كبار في تاكناويت من مراكش أمثال المعلم محمد الزرهبات الشهير بالمعلم الصام و المعلم احميدة بوسو والمعلم العياشي باقبوو نجليه المعلم احمد باقبو والمعلم مصطفى باقبو و المعلم عبد الكبيرمرشان لشهب.