آخر الأخبار

” الــقــدم والــقــلــم ومـا يـســطـرون” ( 1 )

ســعــد ســرحــان.

(عام الفوت)

لو جاز لنا أن نحذو حذو أسلافنا في إطلاق أسماء على بعض الأعوام، لتمييزها عن أترابها في نسل الدهر، كعام الفيل وعام الجوع وعام الجراد وعام التّيفوس وعام البون… لأطلقنا على عامنا هذا في المغرب اسم عام الفوت. فخلاله أبانت أقدام المغاربة، من الجنسين ومن مختلف الأعمار، عن علوّ كُعوبها، وأفحمت العالم والناس أنّ الزئير لم ينقرض في الجبالْ إلّا بعد صار له صدى لا يقلّ شراسة في غير مجالْ، وأنّ للأسود أسودًا ولبؤات وأشبالْ، يُكشّرون في الأقاصي كما في الأدغالْ.

(مغرب أكثر)

مع مغربِ كرة القدم بات المغربُ، هذا العامَ، أكثرَ مغربًا.ففي مونديال قطر، كان إذا انتصر هذا المنتخب أو ذاك، تخرج جماهيره للهتاف والاحتفال، فيما كانت انتصارات المنتخب المغربي تُخرج ملايين البشر من مختلف الألسن والمِلل في جغرافيات شتّى.في مونديال قطر تفرّق جسمُ المغرب في جسوم كثيرة، فإذا هو مُفردٌ بصيغة الجمع، فأكثر من قارّة بصيغة بلد.وها نحن نشهد الآن، كيف أنّ العديد من المواهبْ، من مخلف الجنسيات والملاعبْ، يراجعون جيناتهم، عسى أن يجدوا بها رائحة المغرب في ساطورِ عقيقةِ أحدِ الأجداد، فتكون تأشيرتهم إلى قميص المنتخب.

(كرة نوبل)

تزامن هذا العام حفل تسليم الكرة الذهبية مع الإعلان عن الفائزين بجوائز نوبل، فبدا العالم أذكى من أقدامه في هذا بنفس القدر الذي تجلّى أفقر منها في ذاك.فبينما كانت أكاديمية ستوكهولم تكرّم كهولًا وشيوخًا من ذوي العقول الجبّارة عن عقود من السهر على شؤون البشرية، من خلال ما تجري من أبحاث وتجارب، وما تجترح من حلول لمعضلات العالم، كانت الفيفا تحتفي بفتيان بعضُهم أدركَ بالكاد سنّ الحلم، فقط لأنّهم يتمتّعون بأقدام لَعوب يسيل لها لُعاب الأندية والمستشهرين والقنوات الرياضية… ويحتشد الخلق لمرآها ويختصم.التغطية الإعلامية للحدثين أبرزت جملة من المفارقات، فبدا واضحًا انتصارُ العالم للإنسان المُحتفِل على حساب الإنسان العاقل. ولعلّ ذروتها تتركّز في المكافأة، ذلك أنّ الحاصل على جائزة نوبل يُكافَأ عن عمر مديد من الجِدّ بما يُكافَأُ به لاعب كرة قدم عن أسبوع فقط من اللعب. بل إنّ من اللّاعبين اليافعين من يوّقع عقدًا مقابل قرن من جوائز نوبل بكل فروعها.زاءُ حمَلةِ جوائز نوبل أنّ ما ينفع الناس يمكث في الكرة… الأرضية.

(بين الجدّ واللّعب)

مع أنّ كرة القدم تجمع اللعب إلى الصخب، فإنّ بعض ممارسيها نجحوا في الدخول إليها بهدوء تام ومن باب الجِدّ تحديدًا.فهذه إيسلندا، شاركت في كأس أوروبا 2016 وكأس العالم 2018 بمنتخب من الأطر العليا، بينها خمسة أطبّاء وطيّار وموسيقي ومُخرِج، وبمُدرِّب يُصرّ على العمل بعيادته لثلاثة أيام في الأسبوع كطبيب للأسنان. أمّا حارس المرمى الذي صدّ ضربة جزاء لميسي، فهو محامٍ، وبذلك تكون إيسلندا هي البلد الوحيد، في تاريخ كرة القدم، الذي امتلك محامي عرين.وهذا توستاو، لاعب الوسط الهجومي الأعسر، الملقب ببيلي الأبيض، تعرّض لانفصال شبكيّة عينه اليسرى إثر اصطدام كرة بوجهه في منافسات الدوري البرازيلي، فاضطر إلى السفر إلى هيوستن والخضوع لخمس عمليات جراحية أعادت إليها البصر، ونجح في اللحاق بمونديال 1970.بعد انقضاء النهائي، سافر توستاو إلى هيوستن، وهذه المرّة قصد إهداء طبيبه ميداليته الذهبية كأجمل ردّ للجميل.توستاو اعتزل في سنّ مبكرة، ولأنّ العزيمة لا سقف لها، فقد تفرّغ لدراسة الطبّ، وتخرّج طبيبًا للعيون.وهذا، ليس أخيرًا، سقراطيس، المثقف اليساري وقائد أعظم منتخب في تاريخ البرازيل، الذي لم يحترف كرة القدم، عكس توستاو، إلّا بعد أن أنهى دراسة الطب.من بين كلّ العروض التي تلقّاها سقراطيس من كبار أوروبا، اختار إيطاليا. وحين سئل عن الأمر، ردّ قائلًا إنّه يودّ تعلّم اللغة الإيطالية ليقرأ غرامشي بلُغته الأصلية.

(سيدريك ڤيلاني)

يتمتع سيدريك ڤيلاني برشاقة نجوم كرة القدم ووسامة نجوم السينما، ويتفوّق على هؤلاء وأولئك بامتلاكه لعقل جبّار استحقّ عنه وسام فيلدز، وهو بعد في السابعة والثلاثين من العمر. فأصبح بذلك الناطق الرسمي باسم مجتمع الرياضيات الفرنسي، كيف لا، ووسام فيلدز للرياضيات يعادل جائزة نوبل في سواها من التخصّصات.في أوج لمعانه، حلّ سيدريك ڤيلاني ضيفًا على جامعة القاضي عياض. وفي الوقت الذي كان يحاضر في المدرّج حول الهندسة التفاضليّة والفيزياء الإحصائيّة، كان أحد عناصر دكّة البدلاء في ريال مدريد يُنعش قدميه بمياهِ أوريكة.المُفارقة المُضحِكة حدّ البكاء، هي أنّ الإعلام ترك رأسًا أساسيًّا في المدرّج بالقلب من مراكش، وسافر إلى نواحيها لتغطية أقدام احتياطية في الوادي.عقب تلك الزيارة، زيارة ڤيلاني لمراكش، أيقنتُ أنّه حتى لو كان فيثاغورس بجلال قدره قد نجا من الحريق، وعبَرَ حقل الفاصولياء الشهير، وقفزَ على الأزمنة، وتنازلَ عن شعار الصّمت، وحلّ بصخَبِ جامع الفنا، لَما انتبهَ أحدٌ لوجوده بيننا.