آخر الأخبار

احد عشرة يوما هزت العالم.. نقد لبؤس النقد – 6 –

نحن إذن أمام أطروحتين متمايزتين من حيت الشكل، الأولى للمرجئة ( حتى يكتمل الصرح الحداتي لمجتمعاتنا). والثانية للخوارج (لا علي ولا معاوية، الحكم مشاع للجميع حتى يسقط الاستبداد). ربما سأفكك هذا التمايز بينهما لو تبرعت باسم جديد عوض حركات التحرر الوطني، “الحركة المعاصرة للحداثة والمواطنة وحقوق الإنسان”. لعل هذا الاسم يرضي شغف جميع العاشقين للجديد، وفقط لأنه جديد. لكنهم يجهلون حينها أن التوسيع غير التضمن الصلب لأي مفهوم، لأنه يشتت ويؤدي إلى اللا معنى. ويمكنني أن أخوض في تفاصيل الهفوات الجسيمة الفكرية والسياسية التي لا عد لها، لكن دعنا نركز على ما له قيمة سياسية ظرفية واستراتيجية راهنا ، ولنأخذ أهمها:

أولا: التضحيات البشرية ينبغي أن تكون متناسبة ومعقولة. وهذا كلام معقول أيضا. لكن هل هناك من رقم سحري لهدا التناسب والمعقولية، أم أن المعارك هي التي تفرض نتائجها على الطرفين في شروط محددة لموازين القوى؟ هل قرر ستالين (الاستبدادي ولكنه الوطني!) التضحية بنحو26مليون انسان لفك الحصار النازي عن ستالينغراد وتحرير الاتحاد السوفياتي وهزم النازية في عقر دارها؟ وهل قرر ماوتسي تونغ أن يضحي بعشرات الآلاف في مسيرته الكبرى التي لم يصل منها سالما إلا القليل, وهل أحجم الفيتناميون عن الكفاح المسلح عندما كانت قراهم تحرق بالنابالم وبمن عليها، وهل توقفت الفيتنام الشمالية عن دعم جنوبها وهي تتعرض لتهاطل قنابل الطيران الأمريكي على مدنها وساكنتها، عقابا لها. وهل قررت جبهة التحرير الجزائرية التضحية بما يزيد عن مليون من مواطنيها، وأمثلة أخرى كثيرة… بل هل النضال السلمي، وأرقاه التظاهرات والاضرابات القطاعية و العامة والعصيان المدني، يخلو من القتلى والجرحى والطرد من العمل والاعتقالات والمحاكمات الجائرة التي قد تعادل ف الموت البطيء أو الاعدام . أليس هذا ما يقع في فلسطين اليوم مع تشريد وتهديم بيوت المحتجين وغيرهم.

واذا كان من المستحيل ضبط بمعادلة رياضية رقم الخسارات المادية والتضحيات البشرية في أي نضال تحرري، سلمي أو مسلح، رغم كل التقديرات المسبقة الممكنة، فالذي ينبغي أن يدان في هذه الحالة هو المستعمِر أو الحكم المستبد، وليس العكس، كما يفعل جل دعاة السلمية المزيفة. واذا ما تضخم هدا الهوس السلمي تحول إلى عقدة نفسية استسلامية بالضرورة. ولعل ما أفصح عنه رئيس الحكومة القطري السابق، بصراحته المعهودة، يلخص كل المأساة الفكرية والنفسية والاستراتيجية لهكذا موقف، عندما قال في رده على سؤال عن مكامن  القوة عند الدول العربية: “نحن نعاج ” لا حول ولا قوة لنا. وعلى نفس المنوال، يكتب أحد التقدميين المحترمين، حتى ولو هاجر نصف الإسرائيليين” لصواريخنا عليهم ” ، وبقي النصف الأخر، فإنه سيهزمنا، لأن الهزيمة تسكننا في دواخلنا، ما دمنا متخلفين. وكأن حركات التحرر الوطني المنتصرة كانت جميعا في غاية العصرنة والحداثة والدمقراطية. هكذا تتحول المقولات الصحيحة إلى  أصنام جديدة، عندما تتجرد من تاريخيتها في الواقع الملموس. المقاربة العقلانية لمسألة التناسب بين المعارك، السلمية والمسلحة، وبين تضحياتها المفروضة، تنبني على الموجهات التالية، وهي تتضمن حتما قدرا من المخاطرة، يفرضها دائما العدو في الحالتين.