آخر الأخبار

مولودية مراكش و أخلاق الوطنية لعبد العزيز آيت بنصالح

عن ” المطبعة و الورقة الوطنية  “، صدر أخيرا للأستاذ المؤرخ عبد العزيز آيت بنصالح، كتاب :

كرة القدم وحركة المقاومة، مولودية مراكش وأخلاق الوطنية.

جاء في مقدمة الكتاب للأستاذ يونس السرحاني الحديث عن كرة القدم، أَمْرٌ مُتَاحٌ للجميع، بِخِبْرَاتٍ متعدِّدة، يمكن تجاذُب الحديث، بشأن هذه اللعبة الساحرة، لساعات عديدة، بآليات تختلف، حسب الثقافة الرياضية، وعتبات الممارسة، ودرجات الخِبرة في المشاهدة، أو حتى على سبيل الاقتحام. أمَّا أمْرُ الكتابة، في هذا الموضوع، وشأنُ تَدَارُسِهِ بنَفَسٍ، ومنهجيةٍ عِلْمِيَّيْن، فهو أَمْرٌ غيرُ متاحٍ للجميع، ومَنْدُوحَةٌ تتطلَّب التكوين، والممارسة في النقد، والمراوَحة بين التوثيق، والتحليل، والإبداع. هذا ما أَمْلَتْهُ عَلَيَّ نفسي، وأنا أقرأ كتاب عبد العزيز ايت بنصالح: ” كرة القدم وحركة المقاومة: مولودية مراكش وأخلاق الوطنية”.

في البداية، أَشْفَقْتُ على الكاتب من مَضَارِّ نُدْرَةِ القرَّاء حول هذا الموضوع، بل، وشَكَكْتُ شَكّاً دِيكَارْتِيّاً، في القدرة على التَّمَكُّنِ من ثعابينِه النَّزِقَة، خصوصاً، وأنَّنا بصدد الحديث عن فريق لا يعرفُه سوى المركشيِّين. ناهيك عن تناول رَسَنِ الموضوع، بمقاربة تاريخيَّة، عِرفانيَّة، معرفيَّة، تحليلية.

لكن، سرعان ما تَبَدَّدَ الخوف، والشَّكُّ، بعد مُطالعة أُولَى الصفحات، فَلُغَةُ الكاتب رصينة، وحِسُّهُ الحكَّاء يتماهى مع أصالة المراكشيِّين القدامى، الذين يُجيدون الحديث، في كل مَقام ومَقال، كأنَّ اللغةَ، بالنسبة إليهم، مأمورةٌ مُطيعةٌ. وبعدها، تَحَوَّلَ الشَّكُّ، دونما قرصنة، وتَحَوَّلَ التَّوَجُّسُ إلى إعجاب، فقد تَعَرَّفْتُ كاتباً ناذراً، في موضوع ناذرٍ، لم يُهْدِرْ فيه الوقت، بل، أجاد في قوانين كتابتِه، نحواً، وبلاغةً، وسرداً، وأسلوبيَّة؛ كما استشعرتُ سيطرةً يَفرضُها التخصُّصُ، في علم التاريخ، وتَنِمُّ عن أسلوب يُرَاوِحُ بين الإبداع، والإخبار، دون السقوط في نِسْبِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ، أو في تَخْيِيلٍ جَامِحٍ، في إطارِ نقدٍ بَيْنِيٍّ، يتسلق مرتبة عالية في سُلَّم التحليل.

اختار المُؤَلِّفُ المُراوَحَةَ بين الحاضر والماضي، بين الدَّافِعِ والبحث، فأثبتَ ماضي؛ “نادي مولودية مراكش”، منذ التأسيس إلى ثمانينيات القرن الماضي، واضعاً إِصْبَعَهُ على المِفتاح الذَّهَبِي لخزانة هذا النادي، ولَحظاتِ مَجْدِهِ، وأخلاق فعالياتِه، وكأنَّه كتب بدافعِ مُكافحة النِّسيان، والضَّياع، والاندثار، والمَحْوِ. مَرَّ المُؤَلِّفُ، من “الدَّافِعِ” إلى “المَاجَرى”، دون تثاقُلٍ، أو تَرَدُّدٍ؛ ذَكَّرَ، وكأنَّ التَّذْكِيرَ دَيْنٌ عليه، ورِعايةٌ، من لَدُنْهُ، لحقوق النادي، وحقوقِ مدينة مراكش، وكأنَّه وَفِيٌّ لمقولة هِيرُودُوتْ:

ـــ “أرَدْتُ أن أُنْقِدَ من النِّسيان أعمالَ الفُرْسِ، واليونان”.

وبذلك، يكون المؤلِّف قد حاول رَفْع مستوى وَعْيِ الأجيال، المُقْبِلَةِ على ممارسة كرة القدَم، إذ يَحْمِلُ وِزْرَ الناشئة مُذَكِّرُوها.

أَنْهَيْتُ قراءة الكتاب، وجملة تنقر، كأجراس الكنائس، في خاطِرِي: “إنَّ الكرةَ الجِلْدِيَّةَ كانت للتسلية، أمَّا القنابل، فكانت من أجل الاستقلال…”. وجدتُ في الكتاب حيِّزاً واسعاً من الحرية، إذ، كان عبد العزيز ايت بنصالح حُرّاً، لأنه موضوعيٌّ، وكان موضوعيّاً، لأنه حُرٌّ؛ فخرجتُ من هذه التجربة، لَوْ لَمْ أخرج بغيرها لَكَفَى الأمر، وفي مَقام الاستفادة مفادُها: أنه لدينا، في مطويات التُّرَاثِ، الكثير من المُتَوَارِيَّاتِ الثمينة، تحتاج فقط، لِحَفَّارِينَ يُفَضِّلُونَ المعرفة على الذهب، يحفرُون من أجل إعادة التاريخ إلى سِكَّتِهِ، بعيداً عن الفُقَّاعَةِ، والإشاعة.

كما سَجَّلْتُ درساً تَعَلَّمْتُهُ، للِتَّوِّ، كما تفعل القراءةُ بِعُشَّاقِها، دَائِماً تُعَلِّمُهُم، أنَّ الخوفَ من الفكرة هو الدَّاعي لِمُوَاجَهَتِهَا، فليست كُلُّ المواضيع المَهْرَجَانِيَّة تصلُح لِتُكْتَبَ، وتُقَيَّدَ، وليست كُلُّ فكرةٍ مُنْزَوِيَّةٍ، غير مألوفة، جديرة بالإهمال. بل، على النَّقِيضِ من ذلك، نحن، في هذا الزَّمن المركَّب، نحتاج إلى مُطَارَحَةِ الأفكار العميقة، لاَ إلى الحَكْيِ في المَحْكِيِّ، حسب مَرَامِ السُّوق، والتَّسويق. رَوَّدَ الكاتبُ؛ عبد العزيز ايت بنصالح، خوفَه من الفكرة بالكتابة، كما فعل الإِسْكَنْدَرُ المَقْدُونِي، عندما رَوَّدَ حِصانَه “بُوسِيفَالُوسْ”، فصَنَع منه مَطِيَّةً تُسْعِفُ بالانتصارات، فقط؛ بحث عن مُحَفِّزٍ أوَّلُهُ حُبُّه لمدينة النخيل التي تَرَبَّى في أحضانِها، وتَالِيهِ إصْرارُه على كَسْرِ حاجِزِ الخوف من المواضيع السَّادِرَةِ، المُتَوَارِيَّةِ؛ وربَّما هناك ثَوَالِثُ، ورُبَاعِيَّاتٌ، في الموضوع، أَجْمَعُهَا في تَعَلُّقِ الإنسان، منذ الأزَل، بذاكرتِه التي تقوده دائما إلى تسمية الأشياء.

فما الأثَرُ الخالدُ في هذا المؤلَّف؟ ليس مُؤَلِّفُهُ، في حَدِّ ذاتِه، وإنما هو خالدةُ المعنى: معنى التِزام فعاليات هذا النادي، بأخلاق الوطنية والانضباط، الموروثيْن عن مُؤَسِّسِيه الأُوَّلِ، ذلك هو مدلول الكِتاب.

خلاصة القول، إنَّ الكاتب، المؤرخ والرِّوائي؛ عبد العزيز ايت بنصالح، في وثيقته الثمينة ــ كما سبَق أنْ فَعَلَ في روايَتَيْهِ؛ “العُميان”، و”طيور السعد”، الصادرتيْن عن “المركز الثقافي العربي”؛ وروايتيْه: “العارفان” و”الأَفْرُو أَمِرِيكِي”، الصادرتيْن عن “المركز الثقافي للكتاب”؛ وأيضاً، في كتُبه، التي جمعت بين التاريخ وحركة المقاومة: “شيشاوة منذ ما قبل التاريخ إلى الآن”، و”أوراق من ساحة المقاومة”ـــ بل، في وَثَائِقِه هذه، قد تَذَكَّرَ مع آدَمَ صَلْصَالَهُ، وباح، واقِفاً بمكنونٍ من مكنونات المدينة، فقبَض على طَرِيدَةِ الماضي، قبل أن يَرْحَلَ، بعد أن حَرَّكَتْهُ ذبابةُ سقراط، وسحابةُ أفلاطون، فهمس للآخَرِ، فأجابه بصوتِ الرِّياح التي رَبَّتْهُ، فأكَّد بأنَّ وِصَايَتَنَا بالتَّاريخ يجب أن تُعَدَّلَ، وأنَّ البطولات تحتاج لمن يَكْتَشِفُها، بعد أنْ صُنِعَتْ، وأنَّ العُذْرِيَّةَ شَرَفٌ في كُلِّ شَيْءٍ، إلاَّ الحقيقة، فيجب أن تُهْتَكَ عُذْرِيَّتُهَا، حتى نَصْنَعَ الوضوحَ..

وعليه، فالكِتَابُ، ذَا، قَيْدُ الدَّرْسِ لصاحبه، النَّبِيهِ، وحَرِيٌّ بالمُدَارَسَةِ بعد القراءة، لأنَّه استثناءٌ في مَجاله، يَعْرِضُ الذِّكرى في طَبَقٍ من فِضَّةٍ، وأَنْ لَوْ خَطَّ كُلٌّ مِنَّا كتاباً، حول مُحيطه، لكانتِ الذِّكرى حقيقةً، ولكَان التاريخُ مُصَالِحاً لِذَاتِه، ولَصَارَتِ الأرضُ أكبر من خَارِطَتِها، كما أَنْشَدَ، ذاتَ لِقَاءٍ، الشاعرُ الراحلُ؛ مَحْمُودْ دَرْوِيشْ.