آخر الأخبار

” نطف الأعراب” تخترق ” أرحام الأغراب “

سـعـد سـرحـان

مثلما يتذكّر المرء، وهو في أرذل العمر، ريعانَ شبابه وما الْتَهَمت حواسّه وغرائزه من ملذّات.. تتذكّر الأمم، في مراحل انحطاطها، ماضيها المجيدَ وما كان لها من أفضالٍ على الأمم الأخرى. ولن يقتصر الأمر على استنفار الذاكرة إذا تعلّق الأمر بأمّة كأمّتنا العربيّة التي سادت قرونًا حتى كان لها خَراجُ الغيوم، وعاثت فحولةً في السّبايا من مختلف الأعراق والألوان، بل يتعدّاه إلى التّنقيب في الخرائط الجينيّة للآخرين تَوَسُّلًا لنسل أولئك الأجداد الأشاوس، ووضع رصيده من الضّوء في حسابها المظلم.وبصفتي عربيًّا قُحًّا (قُحًّا أم حقًّا؟) فإنّني لن أحيد أبدًا عن هذا المَسْعى. فإذا كنت لا أستطيع أن أقدِّم للأمّة اختراعًا أو اكتشافًا أو إنجازًا علميًّا باهرًا تزيّن به عُروة قميصها أمام الأمم، فليس أقلَّ، بالنسبة إليَّ، من أن أكون دليلها الفصيح إلى من يقوم بذلك.لتكن بداية جولتنا من الشّيخ الزّبير. فهذا الداهيّة العربي عاصر أكثر من ملك. قيل: خبر حياةَ القصور ودسائسَها، قيل: سجّل عنها أدقّ التفاصيل وقيل…حتى أنّ العامّة في مُدَّتِهِ كانت كلّما أصابها جور السلطان (وهو قلّما يخطئ) تستعيذ بالله وتستجير بالشّيخ.ولعلّ عبارة “ويلهم من الشّيخ الزبير”، التي جرت على الألسن مجرى التعاويذ، تعكس ما كان الناس يعلِّقون من آمال على الرّجل في فضح ظلم الحكّام ومؤامراتهم وفظاعاتهم العديدة في كتبه التي كانوا يزعمون أنّه يعكف عليها في غفلة من عيون القصر.وهي الكتب التي لم تصلنا، ليس فقط لأن النُّسَّاخَ كانوا يتهيّبون التورّط في إعادة خطّها، بل لأنّ جائحةً يقال لها الإنجليز، كانت قد ضربت البلاد والعباد وأهلكت الزرع والضرع، هي التي نهبت الكتب تلك ضمن ما نهبت…
ولقد عمدوا إلى نقل كتب الشّيخ إلى لغتهم مع تغيير أسماء الأماكن والملوك وطمس كلِّ ما يضمن الحقَّ لأهل الحقّ. لكن، هيهات. فعبارة “ويلهم من الشيخ الزبير” التي نبّهتهم إلى أهمّية الرّجل بين أهل عصره وقادتهم إلى كتبه، هي نفسها التي فضحتهم بيننا.ذلك أنهم اعتقدوا أنّ “ويلهم” جزء من الاسم فوضعوا على مؤلّفات الشّيخ اسم “ويليام شكسبير”. ولولا فطنة أهل الغيرة (وأحسبُني واحدًا منهم) لما انكشفت فَرِيَّتُهم. أمّا الفضيحة بجلاجل التي أرادها العامّة من الشّيخ الزّبير فقد صارت مع سَمِيِّهِ شكسبير فضيحة بجماهير، فضيحة يقال لها المسرح.وفي رواية أخرى أنّ شكسبير هذا ليس سوى قناع للشيخ الزبير تمامًا كما هو بيدبا لابن المقفع (المقفع أم المقنع؟)، أمّا الملك لير ودبشليم وهاملت… فهي أسماء مستعارة لسكّان القصور في كل العصور.غير بعيد عن المسرح، يحكى أنّ إحدى حفيدات كُليْب (تذكرون كليب؟) اختلت بنفسها في الحمّام ثم جعلت تُجرِّب صوتها أمام جمهور من الأمشاط وقطع الصّابون وعلب الشّامبو… حتى إذا اندمجت تمامًا مع الدّور، وغابت عنها صورتها في المرآة بفعل البخار، خرجت بموهبتها العاريّة، فإذا هي على ملايين الشّاشات. ولمَّا كان نجاحُها باهرًا (وهل له أن يكون غير ذلك؟) فقد حذت حذوها الكثيرات حتى صار لصنيعهن اسم يعرف به هو “الفيديو كليب”.وحتى لا تُتّهمَ الفضائيات بالانحياز فقد صارت تعرض، بين الفينة والأخرى، هذا الحفيد أو ذاك من أحفاد الزّير سالم وهو يتمايل بشعر مدهون وقميص مفتوح وسط حشد من النساء يشهدن، زورًا غالبًا، أنّه زيرٌ فعلًا.أمّا في باب العلوم، فيحلو لبني جلدتنا أن يُذكِّروا بالطيّار الأول، عباس بن فرناس، ذلك الحالم الكبير الذي لم ير فيه معاصروه سوى زنديق حاول تغيير خلق الله، فقابلوا صنيعه الفذ بشنيعهم الفظ إذ نبذوه وعزلوه في بيته فضيّعوا علينا بذلك أسرابًا أخرى من الأحلام.وكم سيكون جميلًا من شركات الطيران العربي أن تُكَرِّم الرّجل بإطلاق اسمه على إحداها: إيرباص عباس بن فرناس، مثلا، إلّا أنّ ما يجهله الكثيرون هو أنّ لابن فرناس حفيدًا بارًّا يقال له سيدي بلْيوطْ ظهر في الدار البيضاء في أوائل القرن العشرين إثر تهشُّم طائرة كان يقودها.وإذا كان طيارنا الثاني قد لقي مصيرًا أسوأ من مصير جدّه، فإنَّ معاملة معاصريه له حوّلت موته إلى حياة أطول، فقد سمّوْا المكان باسمه وجعلوا له ضريحًا لا يزال قائمًا إلى يومنا هذا. الإنجليز والإفرنج وغيرهم من العلوج، الذين يتربّصون بنا الدوائر، سَطوْا على اسم سيدي بليوط وأطلقوه على كل رُبّان عندهم: Pilot.قبل مدّة توصّلتُ من صديق عراقي بإيميل من بلاد تدعى جمهورية لاوس. ولقد عجبت لرطانة الاسم، فالمؤسسون الأوائل، والعُهدة عليَّ، هم عربٌ أقحاح يقال لهم الأوس. ولستُ أعرف أيّة عُجْمَة أصابت إمبراطورية الخزرج فلم يظهر لها أثرٌ فصيح.سأكتفي بهذا القدر من النُّطف العربية في أرحام العالم، ليس فقط لأنّه كاف للتدليل على أنّ الأمّة العربيّة لم تنته، وأنّها لا تزال ساريّة المفعول، بشكل أو بآخر، في المسرح والغناء والعلوم والفتوحات حتى… وإنّما ليقيني أنّ من بين القرّاء العرب من هم أحقُّ مِنّي بإخصاب هذه الورقة بمزيد من الفحولة، فحولة البرهان (البرهان أم البهتان؟). فبمثل هكذا قرّاء يمكن لهذه الورقة أن تصبح كتابًا جماعيًّا نردُّ به عنّا تهمة العقم، ونثبت به أنّه مازال في النّصل ما يقطع البصل. وهو الكتاب الذي أقترح له العنوان أعلاه.