لم يعد الهاتف النقال مجرد أداة صغيرة في يد الأطفال والشباب، بل صار جواز مرورهم إلى عالم موازٍ، عالم يبتلع وقتهم وأحلامهم ويعيد تشكيل شخصياتهم. منذ جائحة كورونا، حين فُرض على الأسر أن تسلّم شاشات الهواتف لأبنائها لمتابعة الدروس عن بعد، انقلبت الموازين. لحظة بدت في البداية حلًا مؤقتًا سرعان ما تحولت إلى عادة راسخة، حتى صار الهاتف بالنسبة للطفل مثل الأكل والشراب: حق مكتسب لا يقبل النقاش.
اليوم، يواجه الآباء والأمهات معركة صامتة في بيوتهم. أطفال يختبئون في غرفهم لساعات طويلة، يغرقون في الألعاب الإلكترونية، يتنقلون بين تطبيقات التواصل ومقاطع الفيديو القصيرة، فيما تتآكل تدريجياً لحظات الألفة التي كانت تجمع الأسرة حول مائدة الطعام أو في جلسة بسيطة آخر النهار. لا أحد يرفع رأسه من الشاشة، وكأن البيت نفسه صار مجرد محطة شحن بطاريات لا أكثر.
السلوكيات تغيرت بشكل لافت: انفعالات سريعة، توتر دائم، قلق يطفو على الملامح، وانكماش في مهارات التواصل المباشر. لغتهم اليومية صارت محمولة على رموز ووجوه ضاحكة وحزينة تأتي من عوالم افتراضية، أكثر منها كلمات تنبض بالحياة. بعض الآباء يصفون الأمر بـ”الإدمان” الذي يجعل أبناءهم أسرى شاشة مضيئة، سجناء عالم لا جدران له، بينما يقفون عاجزين أمام قوة جاذبة تسرق منهم فلذات أكبادهم.
وللمفارقة، فإن المدرسة التي يفترض أن تكون حاجزًا واقيًا، ما زالت في كثير من الحالات تعزز هذه العلاقة، إذ تواصل إرسال الدروس والواجبات عبر تطبيقات الهاتف، لتصبح هذه الأداة في نظر التلميذ ليست مجرد وسيلة تسلية، بل ضرورة يومية تفرضها المؤسسة التعليمية نفسها. كيف إذن يمكن للأسر أن تمنع أبناءها من الهاتف، والمدرسة نفسها تمدّهم بسببه كل يوم؟
إنها معضلة اجتماعية بكل المقاييس. الهاتف لم يعد مجرد جهاز، بل تحول إلى شريك في التربية، ونافذة مفتوحة على عالم يصعب على الآباء مراقبته أو التحكم فيه. وبينما يتساءل الكثيرون إن كان هذا الجيل قد فقد جزءًا من طفولته لصالح شاشة زرقاء، تبقى الحقيقة المؤلمة أن الهاتف صار يرافق أبناءنا كما يرافقهم الهواء والماء، يعيد صياغة يومياتهم، أحلامهم، وحتى علاقتهم بأنفسهم وبمن حولهم.