آخر الأخبار

محمد بهضوض… الفكرة التي ابتسمت في وجه العالم

في حضرة الغياب:
محمد بهضوض… الفكرة التي ابتسمت في وجه العالم

يوسف اغويرگات 
لم يكن محمد بهضوض مجرد إسم في سجل الفكر المغربي، بل كان ومضة متقدة في ليل الأسئلة الكبرى، رجلا لم يهادن المعنى، ولم يستكن لسهولة الأجوبة. حمل الفكر كمن يحمل مصباحا في ممرات العتمة، لا ليتباهى بضوئه، بل ليبحث عما يتوارى في الزوايا. كان النقد عنده طهارة من الأوهام، والكتابة فعل مقاومة ضد انغلاق المعنى، وضد الخضوع لطمأنينة زائفة.
غادرنا صباح يوم الجمعة، بصمت يليق بالذين لم يشتكوا يوما من ثقل الحياة. ومع ذلك، لم يرحل تماما، فصدى فكره ما يزال يتردد بيننا، هادئا كما عهدناه، صارما كما أحببناه. لم يكن بهضوض أستاذا يعظ أو يلقي من علٍ، بل رفيقا متواضعا في درب السؤال، يسائلنا، يحاورنا، يبتسم في وجه الاختلاف، ويؤمن أن التفكير في الإنسان أسمى ما يمكن أن يبلغه المثقف.
وجلساتنا التي جمعتنا به، نحن والميلودي شغموم، وسعيد بنكراد، وحسن بحراوي، وإبراهيم إغلان، وأحمد مكسي، والشهم الحبيب بنمالك، وعمر الزيدي، والمرحوم الصديق الاحرش وآخرين كُثُر، لم تكن ترفا فكريا، بل تمرينا يوميا على الإنصات والاختلاف، ومساحة للتفكير الحر في قضايا المعنى، والهوية، والسياسة. كنا نناقش بحرارة، نختلف بأخلاق، ونتلاقى في محبة الحقيقة، كما رآها هو، أفقا لا يُحد، ومسعى لا يتوقف. في حضرة تلك الحوارات، لم يكن بهضوض يبحث عن الغلبة، بل عن الإنارة-نور خافت يفتح دروبا جديدة لا تُرى إلا إذا سألناها بصبر.
لقد سكنه سؤال الخلاص كما يسكن العطش جسد التائه، لكنه لم يسقط في وهم المدينة الفاضلة، ولم يقدم إجابات نهائية. في كتابه الفارق “سياسات الخلاص، نقد العقل الأيديولوجي” رفع سؤاله الحارق، هل يمكن للإنسان أن يخلص ذاته دون أن يقع في شرك الإيديولوجيا؟ وكان جوابه، كما حياته، مفتوحا، متواضعا، إنسانيا، الحقيقة ليست عتبة تُبلَغ، بل أفق يناظر، واليقين وهمٌ يصنعه الخوف.
النقاش معه لم يكن يختتم عند النادي أو ينتهي في قاعة ندوة، كنت أوصله إلى بيته بعد كثير من تلك اللقاءات، وكان الطريق امتدادا لما لم يُقَل بعد. هناك، حيث تقلّ الكلمات وتكثف الإشارات، كان يفتح نوافذه الأخيرة من الحجة، ويضيء زوايا لم أكن أراها. كم مرة تحول الرصيف أمام بيته إلى صالون مفتوح للبحث، إلى فسحة لا تُطيق الصمت ولا ترضى باليقين السهل.
وحين أثقل المرض جسده، لم تتغير ابتسامته. حضر تأبين صديقه الفنان محمد الشوبي رغم الألم، لا فقط ليؤدي واجب الوفاء، بل وكأنه جاء ليودعنا بهدوئه المعهود. وحدهم الكبار يعرفون كيف ينهون فصولهم بصمت نبيل.
أثناء جنازته، لم تكن الجموع التي شيّعته مجرد أصدقاء أو زملاء، بل آثار من بصم فكرهم، ولامس حياتهم، وأوقد فيهم سؤالا. كانت جنازة مهيبة، حضرها من سمع صوته، وقرأ فكره، وساجله يوما، ومن أوصلهم إلى حدود السؤال ثم تركهم ليكملوا وحدهم. تلك هي أخلاق الكبار، يفتحون لنا الدروب دون ادعاء، ويغادرون دون ضجيج.
نم هادئا يا صديقي. لم يدفن فكرك، فهو حي بيننا، في الهامش الذي كنت تحوله إلى مركز، في السؤال الذي لم يكتمل بعد، وفي ابتسامتك التي كانت تقول “أنا هنا، لا لأجيب… بل لأسأل بصحبة جميلة”.