الهوية الجامعية بين التميز والتسليع: قراءة تربوية في ضوء القيادة والحكامة الثقافية .
د محمد محاسن
تقديم
تُعدّ الجامعة أحد الأعمدة المحورية لبناء المجتمع، ليس فقط كمؤسسة لنقل المعارف، بل كفضاء لتكوين المواطن، وترسيخ القيم، وصناعة النماذج. غير أن المتتبع للشأن الجامعي المغربي يلاحظ تزايد انزياح بعض الممارسات الرمزية، وعلى رأسها طقوس الاحتفال بالتخرج، عن سياقها الأكاديمي والنَّسَق القيمي الذي يفترض أن يوجّه رسالتها السامية. وفي ظل مظاهر التبخيس والتسطيح التي باتت تطغى على هذه اللحظات المفصلية في حياة الطالب، يبرز سؤال القيادة الأكاديمية والحكامة الثقافية كإطار نظري وتطبيقي لتحليل الظاهرة.
أولاً: الاحتفال الجامعي كتعبير عن الهوية المؤسسية
تُعد لحظة التخرج مناسبة رمزية بامتياز، تعكس فلسفة المؤسسة وهويتها. فالثقافة التنظيمية للجامعة تتجلى في طقوسها، ورموزها، وخطاباتها. وتُعدّ هذه الاحتفالات إحدى الوسائل الحيوية لترسيخ القيم المؤسسية. لكن غياب رؤية ثقافية مؤطرة لهذه الممارسات يجعلها عرضة لاختراق ما يمكن تسميته بـ”ثقافة السوق”، فتفقد الجامعة رمزيتها لحساب أنماط فرجوية تجارية تُقوّض البعد التربوي والأخلاقي للحدث.
ثانياً: القيادة الأكاديمية والفراغ الرمزي
تشير الأدبيات التربوية الحديثة إلى أهمية تبني نماذج القيادة التحويلية في التعليم العالي، حيث لا يقتصر دور القيادة الجامعية على التدبير الإداري، بل يمتد ليشمل الإلهام الثقافي والتربوي. وفي السياق المغربي، يبدو غياب هذه القيادة الرمزية جلياً، خاصة خلال لحظات مفصلية مثل حفلات التخرج. كثيراً ما تُفوّت هذه المؤسسات فرصة تحويل هذه اللحظات إلى مساحة تحفيز وتكريم واحتفاء بالعلم والمعرفة، إذ تُقصى الهيئة الأكاديمية (هياكل المؤسسات) من لجان التنظيم، ويُترك المجال مفتوحًا للطلبة دون تأطير مؤسساتي واضح، ما يُحدث فراغًا رمزياً يؤثر على صورة الجامعة وفاعليتها التربوية.
ثالثاً: الحكامة الثقافية ومحددات الجودة
تفيد تقارير دولية معتبرة أن حكامة التعليم العالي الفعالة تقتضي تصورًا متكاملاً يشمل البُعد الثقافي والرمزي للمؤسسة الجامعية. وفي المغرب، يُعد غياب السياسات الثقافية الواضحة داخل الجامعة أحد مظاهر ضعف الحكامة. فقلّما نجد لجانًا ثقافية بيداغوجية فاعلة، أو دفاتر تحملات تضبط طبيعة الأنشطة الرمزية، أو آليات تقييم تُراكم الممارسة وترصد أثرها التربوي. هذه الفجوة التنظيمية تُفسح المجال أمام تدهور رمزية الفعل الجامعي، وتحول دون بناء هوية مؤسساتية مستقرة ومُلهمة.
رابعاً: نماذج دولية ملهمة لإعادة بناء الصورة
يمكن الاستئناس بتجارب مؤسسات مرموقة مثل جامعة “هارفارد”، التي دعت بيل غيتس لإلقاء خطاب تخرّج يُرسّخ رمزية النجاح المعرفي، أو جامعة “طوكيو” التي تحتفي بمخترعيها وعلمائها. في هذه النماذج، لا يتعلق الأمر بالاستعراض، بل بإعادة تشكيل الوعي الجامعي للطلبة، وربط الإنجاز الأكاديمي برموز ثقافية ملهمة. إن القيادة الجامعية الفعالة تُزاوج بين الرؤية العقلانية والبُعد الرمزي، فتجعل من لحظة التخرج امتدادًا تربويًا لمسار التكوين وليس مجرد مناسبة احتفالية فارغة.
خاتمة وتوصيات
إن مظاهر الاحتفال السطحي في بعض جامعاتنا ليست سوى تجلٍّ لأزمة أعمق تتعلق بغياب القيادة الأكاديمية الفاعلة، واختلال في آليات الحكامة الثقافية. فاستعادة رمزية الفعل الجامعي تقتضي:
✓ وضع ميثاق ثقافي جامعي يُؤطر الأنشطة الرمزية والاحتفالية.
✓ تعزيز القيادة الرمزية والتحويلية داخل المؤسسات الجامعية.
✓ إدماج البُعد الثقافي في منظومات التقييم وضمان الجودة.
✓ إعادة توجيه الاحتفالات الجامعية لتصبح فضاءً تربويًا يعكس هوية المؤسسة، ويُكرّم رموزها الأكاديمية والفكرية.
إن الجامعة التي تحتفل بوعي، وتُثمّن رموزها العلمية، وتُؤطر لحظاتها الرمزية، هي التي تضمن استمرارية رسالتها التربوية، وتُكوّن خريجين واعين ومؤثرين في مجتمعهم .