حسَن الرّحيبي
الميدونَة كانت أبسَط وأرخص إذ لم يكن ثمنها يتجاوز بعض القروش قديماً ، بل قد تطلب امرأة من رجل احترف « الوْظيفة » أن يتكرّم عليها بميدونة لا يتجاوز صنعها ساعة واحدة . حين قد يتخلّى عن مواصلة صناعة ݣُفّة ليوقفها عند حدّ مجال يستطيع احتواء بعض الخبزات السّاخنة خلال شتاءات السّتينات الباردة والمُمطرة بقسوَة . أمّا مادة صناعتها فهي شجيرات الدّوم المتواجدة بكثرة بالغابة المجاورة أو ما يسمّيه الأهالي بالسّاحل . يجلبه بعض المُحترفين على شكل « خصَاص » الدّوم أو الحَلفاء يرتبها بشكل لا يتقنه سواه كما كان يفعل المَرحوم بلّعيّاشي رَاجل خْديجَة القنّوفية . ثم يستعمل الأهالي « الرّزامَة » وهي عصا قصيرة ومتينة جداً لضَرب الدّوم مع رشه بالماء بهدف تليينه ليسهل فتله على شكل حبال تضمّ إلىٰبعضها بالمخيَط ..
ولا زالّ الدّوم ينبت بكثرة في هذه المناطق إلى درجة إغراء مُواطن فرنسي في الثّلاثينات بإنشاء مصنع أو طاحونة لدقّ أغصَان الدوم وتحويله إلى حلفاء كان يستعملها سكّان المدن لحشو وملء الأفرشة أو اللّحايف ذات الخطوط الشبيهة بالبّيجاما pyjama لم تعد اليوم موجودة . ورغم ثقلها وخُشونتها كان يُعتبر سعيداً ومتقدماً من يستطيع امتلاكها . بل لم يكن يستطيع ذلك سوى الأريستقراطيين من الرّويحات والصّديݣات … كان المصنع متواجداً بمنطقة الكيفان (الكهوف) قرب سيدي علي بن رحّال … ربما لا زالت بعض آثاره موجودة إلى اليوم . كما اختفىٰ من سوق اثنين الغربية سائق بذراع واحدة كنا نسميه “بويديّة” بينما قُطعت الأخرىٰ بهذا المَصنع وظلّ شاهداً على عصر الدّوم والحَلفاء خلال سنوات الستّينات . وكان يثير استغرابنا لإتقانه السّياقة بمَهارَة فائقة رغم توفّرة على ذراع واحدة ..
أما الطّبَݣ (الطّبَق)فهو أرقىٰ لأنه أعقد ويصنع حصرياً بمدينة مراكش لتواجد نساء ماهرات في هذه الصنعة . وأشجار النّخيل بكثرة . ورغم ذلك كان الأهالي يقتنونه لوجود تجار مثل المَرحوم بن الشّرقي الذي كان يجلب الطّبوݣة والقبابش والقرابات والغرابيل والرّوابيز ويزوّد بها المنطقة كلها …
ولمّ عُيّنتُ في مرّاكش أوَاخر السّبعينات استهواني شراء هذه الأشياء الجَميلة التي كان لا يمتلكها في دوارنا سوىٰ الأغنياء خاصّةً طبيݣة سي بوشعيب التي اختصّ ولد امّينة في حملها من دار الذرّيات لدار الذّراري . يحملها بطريقة مخزنية أرستوقراطية متميّزة ، وهي مُحكمة الإغلاق لغنىٰ وتنوّع محتواها كل يوم وقت الغذاء . فتشهينا رائحتها المتسلّلة عبر الهواء ونحن نتضَوّر جوعاً بأرجَاء الدوار ودروبه المليئة بأكوام رماد مَطابخهم التي لم تكن تغرب عنها واستمرار غنّو لفّارقشَة في الطبخ ليلاً ونهاراً لكثرة الوافدين والزّوّار . لكن ما كان أحد يجرؤ على التّعبير أو التّطلع لتذوقها لأنها كانت مخصّصَة للأكابر … خاصّةً لما كنا سيارات فخمة يتلألأ زجاجها الأخضر الرّاقي والفاخر تحت أشعة شمس الصّيف القائظة حين يعزم سي بوشعيب أكابر القوم من حكّام وقضاة ومسؤولي الضّرائب والتّرتيب ولوذن وجباتها .. ومهندسي المُحافظة العقارية الطّوبّوغرافيين فرنسيين ومغاربة .. ونحن نرعىٰ المَواشي ونصطاد الطّيور في ربوع امّودنان الشّاسعة والقاحلة آنذاك .. وهي مركونة تحت أشجار الأوكليبتوس المحروسة بشدة لاعتقادهم بأنها ستثمر فواكه أوسترالية غريبة des fruits exotiques . لكنّها أثمرت فقط مجامر صغيرة شبيهة لتلك التي كانت تصنع بالعݣابة .. كما تثير جَحافل النحل الوافدة من كل حَدب وصَوْب خلال فترة ازدهاره في مطلع الخَريف ..
كما ظلّ أخي الأكبر بلّمعطي لما يفرغ من أشغاله وينتشي بشرب أنواع طابا والكيف ليخوض في أغاني جميلة عن الميدونة وغيرها :
جابونا عل الميدونَة
والكيموني
واللّيموني ..
وأيضاً :
العار عليك آبلقيس
وعار العبد على مولاَه !
وأيضاً
لالة ولالة ولالة
واعاد عادة !
وابّاه يا ابّا مولاي عبد الله الوالي
رَا احنا جينا نزوروك !
سّطنطاران سّطان طاران ..
كما كنّا يوم عرفة أي اليوم السابق على عيد الأضحى نجتمع جميع أطفال الدوار نأخذ ݣفّة من الدوم ونطوف بالدوار خيمة خيمة . وزنݣة زنݣة ونحن نردّد صائحين :
عرفة يا ميمونة
حُطي الشعير في الميدونَة
باش نعلّف حولينا
وحولينا عد الطالب
والطالب في الجنّة
والجنة محلولة
حلّلها مولانا
مولانا واصحابو
في الجنّة يتصَابوا .
تعطينا مولاَت الخيمة حفنة زرع نأخذ لها شيئاً ممّا امتزجَ في قفتنا من أنواع الحُبوب والسّكّر والتّمر .. تضعه بمكان محفوظ . في الصّباح لما يريد أبي ذبح الخروف أول ما يقوم به بعد شحذ السكّ.ين . آرى عرفة وشيئاً من الورد اليابس وأزهار الرّيحان وقليلًا من المَاء . يُدخل كلّ هذا بحُنجرة الكبش gaver وهو يردّد :
علّفناك في الدّنيا
علّفنا في الآخرة !
طُقوس افتقدناها اليوم للّذين يعتبرون العيد التهاماً للّحم والشّحم وقطَع تُحشر في المجمّد حتىٰ الشّهور القادمة كي تلاݣي العيد بالعيد .