اعتبر تقرير اللجنة العلمية لخدمة حقوق الإنسان، المكتب التنفيذي للمركز المغربي لحقوق الإنسان، المنظومة الصحية العمومية بالمغرب على حافة الانهيار واوضح التقرير، أن المنظومة الصحية العمومية بالمغرب، تعيش أزمة خانقة تهدد الحق الدستوري للمواطنين في الصحة (الفصل 31 من الدستور) والحق في الحياة (الفصل 19)، كما تشكل خرقاً لالتزامات المغرب بموجب المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فقد تحولت المستشفيات، المحلية، الإقليمية والجهوية وحتى الجامعية، إلى فضاءات للمعاناة بدل العلاج، حيث تتوالى شهادات المرضى وذويهم عن الإهمال والرشوة وسوء التدبير والتعنيف والإهانة، في ظل غياب رؤية حكومية إصلاحية حقيقية. فالاحتجاجات أمام مستشفى أكادير، أو باقي المستشفيات، في زاكورة، اخنيفرة، إنزكان، طانطان، العرائش، الدار البيضاء وغيرها، على إثر وفيات مأساوية، نتيجة الإهمال الطبي، غياب الكوادر أو عطب في التجهيزات الأساسية، ليست حوادث معزولة، بل صور صادمة لأزمة متجذرة. أزمة تعكس اختلالات بنيوية، مما دفع المكتب التنفيذي للمركز المغربي لحقوق الإنسان إلى تكليف اللجنة العلمية لخدمة حقوق الإنسان لدراسة هذه الاختلالات، حتى نضع الحكومة المغربية أمام مسؤولياتها التاريخية، إزاء قطاع من القطاعات الحيوية التي ينبني عليها حاضر ومستقبل الشعب المغربي.
الاختلالات البنيوية الرئيسية :
1. إهمال، تسيب، رشاوي وحسابات سياسية : تعاني معظم المستشفيات المغربية من مظاهر فساد متعددة ومختلفة، مثل فقدان تجهيزات في ظروف غامضة (كما في تازة، حيث اعتقل 12 شخصاً بتهمة بيع معدات عمومية لمصحات خاصة)، وإجبار المرضى على اقتناء مستلزمات جراحية من صيدليات معينة، ناهيك عن الرشوة والمحسوبية في توزيع الأدوية، حيث تُخفى بعضها إلى حين انتهاء صلاحيتها، علاوة على قمع وإهانة المرضى وذويهم من لدن حراس الأمن الخاص وممرضات، مما يُعد خللا كبيرا في تدبير المنظومة وانتهاكاً يهدد حق المواطنين في التطبيب والكرامة ويفاقم عدم الثقة.
كما أن مظاهر الإهمال الطبي، المسبب للوفيات، منتشرة بشكل كبير ويومي في المستشفيات المغربية، مثل حالة فاس حيث أدى نقص الحاضنات إلى وفيات في صفوف الأطفال، ناهيك عن وفيات في صفوف نساء حوامل بسبب غياب أطباء توليد والإهمال الطبي (مستشفيات زاكورة، طانطان، مراكش، العرائش، الحسيمة نموذجا)، أما التفاوت الجهوي، فتعاني منه الجهات النائبة بشكل كبير مثل بولمان، أزيلال، تنغير، ميسور وغيرها، حيث يغيب الإسعاف، كما أن نماذج ضحايا عدم الإنقاذ في اللحظات الحرجة داخل المستشفيات فلا حصر لها (تأجيل عمليات جراحية روتينية وطارئة في المستشفى الإقليمي أجدير بالحسيمة، بسبب نقص الأطباء الجراحين، انتهى بوفاة مريضة في ظروف مأساوية)، حيث لم يتم إجراء تدخل جراحي سريع بسبب غياب المتخصصين (في الجراحة وفي التخدير). وفاة سيدة بسبب عدم الكشف على السرطان الذي حدد موعده بعد ستة أشهر، زوجة مريض تبيت في ممرات مستشفى مراكش، سيدة حامل تفقد حياتها جراء النزيف بسبب غياب طبيب الولادة ونقلها على وجه السرعة إلى مستشفى يبعد مئات الكيلمترات…
كما تورطت العديد من المجالس المنتخبة وأحزاب الأغلبية بها في ممارسات أخلت بالسير العادي لبعض المستشفيات، حيث تقوم بتوظيفات مشبوهة، علاوة على غياب الشفافية في صرف الميزانيات الجماعية المرصودة لقطاع الصحة (المستشفى الإقليمي بميدلت نموذجا).
كل هذه الاختلالات ومظاهر فساد عديدة لم يتسنى عرضها، والتي تسبب العديد منها في فقدان المرضى حياتهم، تكشف عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان الأساسية، تمس الحق في الحياة (المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان) وفي الصحة (الفصل 31 من الدستور المغربي) وفي الحياة الكريمة (المادة 12 من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية).
2. ضعف الميزانيات المخصصة وغياب الشفافية في صرفها : لا تتجاوز ميزانية الصحة في قانون المالية لعام 2025 نسبة 5 % من الإنفاق العام، رغم الزيادة المعلنة، مما يبقي المنظومة في حالة تخلف مزمن (حوالي 32,6 مليار درهم تقريباً). هذا الضعف يبين بأن أولويات حكومية تذهب إلى قطاعات أخرى (ومنها قطاعات ترفيهية وثانوية) على حساب الصحة العمومية، حيث يصل العجز في التمويل إلى مستويات تعيق توفير الأدوية والتجهيزات الأساسية. أما صرف الميزانيات المرصودة من المجالس الجماعية، فيعاني من غياب الشفافية والنجاعة، حيث تطغى الحسابات السياسية على الاحتياجات الفعلية، مما يؤدي إلى هدر الموارد في مشاريع وهمية أو صفقات مشبوهة. في عدد من المستشفيات يُجبر المرضى على شراء مستلزمات طبية مثل خيوط جراحية، الدم… (حالة مستشفى الحسن الثاني بأكادير، الدار البيضاء نموذجا)، ، رغم وجود ميزانيات مخصصة للصيانة والتوريد. هذا الإهمال يُعد انتهاكاً لحقوق المواطنين في الوصول إلى الرعاية الصحية المجانية، كما ينص عليه القانون 34-09 المتعلق بحقوق المرضى.
3. قلة الكوادر الطبية وبيئة عمل مرهقة وغير مشجعة : وفق التقرير الصادر عن المندوبية السامية للتخطيط بعنوان “المغرب بالأرقام 2024″، يبلغ عدد أطباء القطاع العام على المستوى الوطني 15 ألف طبيب فقط، في بلد يتجاوز عدد سكانه 36 مليون نسمة، وهذا يعني أن المعدل الوطني للأطباء لا يتجاوز 4 أطباء لكل 10 آلاف نسمة، وهو رقم بعيد جداً عن المعدلات الدولية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية (15 طبيباً لكل 10 آلاف نسمة). مما يعني أن القطاع يعاني من عجز يصل حاليا إلى أكثر من 30 ألف، وقد يبلغ أكثر من 50 ألف طبيب بحلول 2035 حسب تقارير رسمية، مع هجرة 600 إلى 700 طبيب سنوياً إلى الخارج. كما أنه في الكثير من المستشفيات، هناك نقص حاد في عدد الأطباء الأخصائيين في تخصصات حيوية، خاصة في مجال الجراحة، الإنعاش والتخدير (بن سليمان وبوزنيقة نموذجا)، في طب الأطفال والقلب (آسفي، تنغير، إيفران، بركان نموذجا)، مما يجبر المرضى على التنقل لمستشفيات أخرى تبعد مئات الكيلومترات.
كما أن النقص الحاد في الكادر الطبي يفاقم بيئة العمل ويجعلها سامة، بحيث يتسبب في ضغط نفسي هائل على الأطباء والممرضين، ويترتب عنها عزوف الأطباء عن العمل في القطاع العمومي، في الوقت الذي يتعرض فيه بعض الأطباء والممرضين للإهانة بعدد من المستشفيات (نموذج مستشفى الولادة الليمون، مستشفى إبن رشد بالدار البيضاء، مكناس، فاس بالرباط). كما أن استغلال المصحات الخاصة للأطر العموميين يشكل ظاهرة شائعة ومضرة بواجباتهم في المستشفيات العمومية، بل هناك مصحات خاصة محاذية للمستشفيات العمومية، وينقل إليها الأطباء والمرضى نهارا جهارا (نموذج مصحة خاصة بجوار المستشفى الإقليمي بشيشاوة)، مما يحول المنظومة العمومية إلى مصدر زبناء مباشر للقطاع الخاص. هذا الاستغلال يُعد شكلاً من أشكال الفساد الهيكلي، ينتهك حق المواطن في الصحة وحق الأطر الطبية والتمريضية في بيئة عمل لائقة (اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 155).
4. غياب صيانة فعالة ومستدامة للتجهيزات الاستشفائية : تعاني المستشفيات من نقص في صيانة التجهيزات، حيث تتوقف أجهزة مثل السكانر لأشهر بسبب غياب عقود الصيانة، كما في مستشفى الحسن الثاني بأكادير ومستشفيات جهوية وإقليمية عديدة (فاس، الرباط، ميدلت…)، حيث ينتظر مرضى السرطان وأمراض مزمنة أخرى أشهر عديدة لفحص بسيط. فيما تروج معلومات حول شبهات قوية بتعمد إعطاب التجهيزات لدفع المواطنين إلى القطاع الخاص، كما كشفت تحقيقات في صفقات التجهيزات ببعض المستشفيات عن منح عقود الصيانة بطرق غير شفافة. وفي بعض المدن (القنيطرة، آسفي، تنغير، بني ملال نموذجا)، يُجبر المرضى على التنقل مئات الكيلومترات لإجراء عمليات جراحية بسبب نقص خيوط الجراحة والتخدير، مما يعرض حياتهم للخطر. هذا الإهمال يشكل انتهاكاً للحق في الحياة (الفصل 19 من الدستور)، ويفاقم الفجوة بين الغني والفقير.
5. غياب حوكمة ديمقراطية وشفافة لضمان ديمومة الكادر الطبي : في معظم المستشفيات، لا توجد حوكمة تضمن ديمومة الكادر، مثل نظام المداومة 3/8 (ثلاثة كوادر لكل تخصص، 8 ساعات لكل واحد)، مما يؤدي إلى إرهاق الأطر وهجرتهم. حيث تراجع عدد أطباء الجراحة والتخدير بشكل كبيرة، مما يشل العمليات الجراحية. هذا الغياب يُعزى إلى سياسات حكومية تفضل الخوصصة على الاستثمار العمومي، مما يحول المستشفيات إلى “مراكز إحالة” لمستشفيات بعيدة أو للقطاع الخاص.
6. نقص الرعاية النفسية والعقلية : يعاني قطاع الصحة النفسية ببلادنا من نقص حاد في أطباء الطب النفسي في القطاع العام (حوالي 319 طبيباً نفسيا فقط على المستوى الوطني)، في الوقت الذي يحتاج المغرب لأكثر من 2000 طبيب نفسي، مع غياب أقسام متخصصة في معظم المستشفيات الإقليمية، كما أن تأخير مواعيد الفحص لأشهر يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات، مما يساهم في ارتفاع حالات الانتحار والعنف الأسري، وانتهاك الحق في الصحة النفسية (المادة 12 من العهد الدولي). هذا النقص يعكس إهمالاً حكومياً كبيرا للصحة النفسية والعقلية كجزء من الرعاية الأساسية.
7. ارتفاع أسعار الأدوية وعدم توفرها : تعرف أسعار الأدوية ارتفاعا مهولا، يعود إلى التسيب الذي يعرفه القطاع بسبب غياب المراقبة والتأثير السلبي للوبي صناعة الأدوية، وممارسات احتكارية خارج رادار الرقابة لحكومية، كما يضطر المرضى، خاصة المصابين بأمراض مزمنة، لشراء أدوية غير متوفرة في المستشفيات العمومية من الصيدليات الخاصة بأسعار باهظة، حيث تصل تكلفة علاج السرطان مثلا آلاف الدراهم شهرياً. هذا الوضع، الناتج عن غياب سياسة ناجعة في توفير الأدوية، وتغول لوبي صناعة الأدوية في ظل غياب المراقبة وضعف المخزون الدوائي وسوء التوزيع، ينتهك الحق في الرعاية المجانية (القانون 34-09) ويفاقم الفجوة بين الفقراء والأغنياء.
الخاتمة والتوصيات
إن أزمة المنظومة الصحية ببلادنا ليست أزمة عابرة، بل أزمة بنيوية، تهدد السلم الاجتماعي بشكل جدي وغير مسبوق، والاختلالات لا تقتصر على مستشفى الحسن الثاني بأكادير، بل تطال المؤسسات الاستشفائية كافة، تهدد حياة وكرامة المواطنين وحقهم في الصحة كحق أساسي، وبالتالي فإن إقالة مدير وبعض المسؤولين في مؤسسة استشفائية بأكادير مجرد حلول شكلية غير كافية، والحكومة الحالية، رغم وعودها المتكررة، فشلت فشلا ذريعاً في مواجهة هذه التحديات.
وعليه، يوصي المركز المغربي لحقوق الإنسان بما يلي:
1. إقالة الوزير الحالي وتعيين شخصية كفؤة وذات خبرة في سياسة الصحة العمومية.
2. تشكيل لجنة وطنية متعددة الاختصاصات والمشارب، للوقوف على الاختلالات في قطاع الصحة، كفيلة بتقديم توصيات استراتيجية للعمل على إصلاح قطاع الصحة العمومية على المدى المتوسط والبعيد.
3. تحسين بيئة العمل داخل المستشفيات المغربية، حتى تكون محفزة للكوادر الطبية والتمريضية، ومحاربة كل أشكال الارتشاء والقمع والابتزاز.
4. زيادة تدريجية في ميزانية الصحة لتصل إلى 10% من الإنفاق العام في أفق 2030، مع آليات شفافة للصرف.
5. تعزيز الكوادر عبر تحسين الرواتب ومكافحة الهجرة، ومنع الازدواجية مع القطاع الخاص.
6. إنشاء لجان صيانة مستقلة ومحاسبة المتورطين في جرائم فساد في القطاع.
7. تفعيل حوكمة ديمقراطية تشمل المجتمع المدني.
8. زيادة عدد الأطباء النفسيين وإنشاء أقسام متخصصة للأمراض النفسية والعقلية بالمستشفيات الإقليمية وتوفير الأطر الطبية والتمريضية بها، و دمج خدمات الصحة النفسية في برنامج التغطية الصحية الإجبارية.
9. مراقبة سوق الأدوية وإجبار الشركات على توفير أدوية بأسعار عادلة، تراعي القدرة الشرائية للمواطنين المغاربة.
و خلص التقرير إلى أنه يجب العمل على إنقاذ منظومة الصحة ببلادنا قبل فوات الأوان.