الصحة العمومية بين الحكامة و الأمانة و الخيانة
الحاجة إلى ” حالة استثناء ” صحية
إدريس الأندلسي
أصبح من المخجل أن نجتر خطابات و تعليقات، و نضيف إليها خلطة من المؤشرات المتعارف عليها عالميا لنخلص إلى أن قطاع الصحة في بلادنا مصاب بمرض عضال. و يجب القول بكثير من الخجل دائما، أنه كانت لدينا منظومة صحية تتطور منذ بداية الاستقلال. كانت لدينا عدة مؤسسات مختصة في الصحة العقلية و النفسية، و طب العمل، وطب الأم و الطفل و غيرها من الاختصاصات . كان الوعي كبيرا بأهمية الصحة العمومية ، و بضرورة وضع إستراتيجية لها من خلال المناظرة الوطنية التي أشرف عليها الملك محمد الخامس سنة 1959. و وقف عدد المناظرات عند إثنين بعد تلك التي نظمت سنة 2013.
و أستمر التدهور في مجال الولوج إلى الخدمات الصحية الأساسية إلى اليوم، بل و إلى الساعات القليلة الماضية. لا يمكن أن ننسى آثار برامج ” الإصلاحات الهيكلية” لسنة 1984، و ما خلفته من تقليص للإمكانيات الموجهة للقطاعات الإجتماعية. و لا يمكن أن نستسهل أثر تراجع مستوى، كثير من النخب السياسية و النقابية، على تدبير قطاع الصحة و حكايته. تراجعت البنيات الصحية، و الصناعات الدوائية، و تقلص العرض الطبي في ارتباطه بضيق أفق في مجال التكوين في مجال المهن الطبية. و زاد الطينة بلة ما شهدناه منذ سنين من اعتبار الخدمة الصحية سلعة اغتنى منها الكثيرون. و لا يمكن أن لا نتذكر ذلك الدرس الذي لقنه الملك الراحل، الحسن الثاني، للأطباء في إحدى الاجتماعات بهم. وبخ من يمارس الطب بهدف تحقيق أكبر الأرباح، و طلب منهم الرفق بالمواطنين مع السعي إلى تحقيق دخل محترم يضمن لهم العيش الكريم.
خرج الناس في أكادير، و هي المدينة السياحية و الفلاحية التي تطورت بنياتها خلال السنين الأخيرة، و تراجعت الخدمات الصحية بها، كما تراجعت في كل المدن و الجهات. و لا يستبعد أن تشهد هذه المدن نفس التعبير الشعبي الذي عرفته أكادير، و الذي لا يمكن ربطه بجهة تريد أن تسيء سياسيا لرئيس الحكومة.
تضاعفت الميزانيات منذ عشرين سنة، و تم بناء مستشفيات في الأقاليم و الجهات، و توسعت خارطة المستشفيات الجامعية، و غابت الحكامة. غاب التنظيم المؤسساتي، و تراجع مستوى مراقبة أداء الواجب المهني من طرف فئة من الأطباء و الممرضين. و سمعنا وزير الصحة يؤكد أنه سيتم إتخاذ تدابير عدة، من بينها قرارات تأديبية ضد من يغادرون المستشفيات العمومية خلسة لكي يؤدوا خدمات ” جيدة” في مصحات خاصة تضمن الأسرار و تتيح الأرباح. لا يمكن اعتبار هروب طبيب من أداء واجبه يتطلب فقط إنذارات أو توبيخات أو اقتطاعات من الأجور. هروب الطبيب من المستشفى يعرض حياة المرضى لأخطار كبيرة، و يتطلب تدخل القضاء. و لا يجب أن تقف أية نقابة أو جمعية مهنية ضد المحاسبة القضائية لمن يترك المرضى، ذوي الدخل المحدود، ليتنقل لخدمة ذوي القدرة على الأداء نقدا. و نحمد الله على أن كثيرا من الأطباء يرفضون مغادرة المستشفى العمومي خلسة، و يقومون بتضحيات من أجل المرضى في ظروف صعبة. أصبح الكل يعرف في اقاليم كثيرة أن بعض الأطباء الذين يقطنون بالمدن الكبرى، لا يقضون الا يوما أو يومين بالمدن الصغرى التي يوجد بها مقر عملهم الرسمي.
يعرف كثير من المواطنين أن المستشفيات العسكرية تتميز بنوعية خدماتها. و يرجعون السبب إلى الانضباط الذي يميز تدبيرها. و يكفي أن نأخذ بهذا التدبير كمثال بدل البحث عن نماذج من خارج المغرب. نعيش مرحلة تتميز بتنزيل ورش الحماية الاجتماعية، و التوجه إلى انشاء بنيات صحية كبرى، و لا تخصنا إلا الحكامة المبنية على الانضباط، و المحاسبة، و التدبير المالي و الطبي بما يتيحه العلم من إمكانيات المناهج المعلوماتية. سنضع منظومة المجموعات الترابية الصحية على صعيد الجهات، و لكنها لن تضمن الوصول إلى حكامة تضمن ولوجا إلى الخدمات الصحية حسب مضمون دستور البلاد. يحتاج قطاع الصحة ببلادنا إلى إعلان حالة استثناء صحية تخضع خلالها جميع مكونات المنظومة الصحية لاطار للمراقبة و المحاسبة تشبه تلك التي تسود مستشفياتنا العسكرية. أعرف أن هذا الكلام لن يجد قبولا و استحسانا لدى الكثيرين الذين سيرفعون بطاقات حمراء منها ما هو حقوقي ، و منها ما يتعلق بتقديس الليبيرالية على حساب الحق في الصحة.