آخر الأخبار

السياحة الداخلية : أضغات أحلام

خارطة الطريق الإستراتيجية لقطاع السياحة ” الداخلية” : أضغاث أحلام

إدريس الأندلسي 

أؤكد أن للمغرب خارطة طريقة إستراتيجية تغطي سنوات ” 2023 – 2026″ . و أؤكد كذلك على أن محاورها ركزت على أهداف تتعلق بأعداد السياح، و تنويع العرض، و الرفع من مناصب الشغل، و زيادة الموارد السياحية إلى 112 مليار درهم سنة 2024 . و ركزت هذه الخارطة على أهداف قديمة- جديدة كتنويع الأسواق و زيادة الإستثمار. و وقفت هذه الخارطة عند معضلة السياحة الداخلية لتقول بصيغة ” مبهمة” تخص ، وجوب تشجيع السياحة الداخلية من ” خلال استكشاف الطبيعة “. و للتذكير، فقد خصصت الحكومة لهذه ” الخطة الإستراتيجية “مبلغ 6،1 مليار درهم من أموال دافعي الضرائب ، و أكثرهم من ذوي الدخل المحدود. و هكذا قالت الحكومة للمواطن المغربي الذي يريد أن يقضي عطلته على الشاطئ، أو في الجبال أن يعد نفسه لاستكشاف الطبيعة ، و الإبتعاد عن المناطق التي أصبحت خارج قدرته الشرائية. و تغافلت هذه الخطة الإستراتيجية تشوه مظاهر جذب السياح الأجانب دون التركيز على مقاييس إمكانياتهم المالية. و ها نحن نشهد اكتظاظ مطاراتنا بسياح أجانب لا يملكون في جيوبهم أكثر من 10% مما يجبر المسافر المغربي على أن يقدمه للحصول على تأشيرة شنغن ، أو لتجاوز نقاط ختم الجوازات في مطارات أو موانئ أوروبا. و ستظل السياحة الداخلية مرفوضة من طرف عشاق التعامل مع السائح الأجنبي المفترض أنه ذو قدرة شرائية مذهلة. و ستنهار كل التحفيزات للمواطن المغربي، كما أنهار ” برنامج كنوز” الذي سوق لانخراط كثير من الفنادق ،قبل سنين، لتشجيع السياحة الداخلية عبر أسعار خاصة بالمغاربة. فانقلب سحر التحفيز إلى إبعاد ممنهج للطبقة الوسطى من بنيات سياحية ،استفاد أغلبها من كرم ضريبي و منح من الميزانية منذ أكثر من خمسين سنة. المشكل يتلخص في حكامة اقتصاد ، و في ضعف كبير للقضاء على بؤر الاغتناء عن طريق الريع الذي يضعف الإرادة الاستثمارية الحقيقية و المنتجة للثروات.
ظل الكثير منا ينتظر فصل الصيف لكي ينال حظه من المصيف، و يرتاد على احب الشواطئ إليه، و يكون قبل ذلك، قد أعد، بكثير من التدقيق، ميزانية عطلة تريحه نسبيا، من عناء سنة بكاملها. و تغير الأمر كثيرا، و توقف معه طموح قضاء أسابيع في مناطق جبلية أو شاطئية. أصبحت الشقق ذات سعر يومي ، و الفنادق ذات سعر يحرق كل ما تم ادخاره. كانت الطبقة الوسطى تتخذ من بعض الفنادق مرتعا لقضاء أيام سعيدة، و لكنها أصبحت تكتفي بما يوجد في جيب أرباب الأسر. و كم روجت الحكومات المتعاقبة من برامج لتشجيع السياحة الداخلية، و لكنها نجحت في وضع حدود مالية بين الطبقة الوسطى و كثير من الفنادق التي تصنف كمتوسطة. و ظل السائح الأجنبي هو المحظوظ و المستفيد من الأسعار المنخفضة طيلة السنة.
ليس بالإمكان أفضل مما كان
قديما قال الشاعر” سافر تجد عوضا عمن تفارقه… و انصب فإن لذيذ العيش في النصب… إني رأيت وقوف الماء يفسده…إن سال طاب، و إن لم يسل لم يطب” . و قيل في فوائد السفر أنها سبع أساسها التواضع من أجل الفهم ، و القدرة على الإبداع، و الشعور بالثقة ، و التحفيز على التعاطف و تعميق فهم الحياة. كم هي جميلة هذه الحكم و الفوائد، و كم هي بعيدة عن شراسة معيقات السفر في زمن السياسات العمومية التي ترفع الشعارات، و لا تقيم الإنجازات. كانت العطلات الموسمية فرصة للسفر و الاستجمام لكثير من الأسر ذات الدخل المحدود. يتذكر الكثيرون من مواليد الخمسينات و الستينات و حتى السبعينات صباحات شهر غشت. يتم حزم الحقائب، و إعداد ما يلزم من أدوات الطهي و من التوابل و بعض اللحوم المجففة. كانت أغلب الأسر تلجأ إلى وسائل النقل المتاحة، بما في ذلك ” الكوتشي” للوصول إلى محطات الحافلات أو القطار. تبدأ الرحلة المؤدية إلى المدن الساحلية بفرح كبير. كان رب الأسرة يبرمج السفر بعد أن يكون قد قام بتأجير بيت و دفع واجب الكراء.
توالت البرامج التي قيل أنها ستشجع السياحة الداخلية منذ عقود. و استقر رأي الأغلبية خلال إتفاق مكوناتها على تضمين برنامج الحكومة ” خارطة الطريق الإستراتيجية لقطاع السياحة “، و لا زالت كل مشاريع قوانين المالية تبشر بالاستمرار في التأكيد على نيتها لمواصلة الإهتمام بهذا القطاع.
لم نكن قبل سنوات نتكلم عن سياحة داخلية أو عن هجرة الادمغة. تغير الحال، و تغيرت معه تصورات المغاربة عن العطلة. و وصلنا اليوم إلى واقع آخر تحول من خلاله ” السمسار” إلى سمسرة افتراضية تديرها خوارزميات. و أصبح الأمر تحت سيطرة السمسرة الخاضعة للذكاء الاصطناعي. تحاول أن تسافر داخل بلادك عبر الإتصال بفندق، فلا تجد سبيلا الى الكلام مع موظف في فندق، بل مع كمبيوتر مبرمج في إحدى الجزر التي تفصلك عنها آلاف الكيلومترات. سماسرة اليوم مليارديرات لمجرد أنهم يمتلكون مواقع على الإنترنت و برمجيات تجعل منهم مليارديرات.
السائح الأجنبي أولوية و ليس المغربي
كلما حلت بخاطري رغبة في السفر إلى مدينة في بلادي، أفتح هاتفي المحمول للحصول على معلومات تهم الموقع و الأسعار. تتساقط أمامي أمطار من المعلومات، و لكن الذي يقلقني، كغيري من محبي السفر، هي تلك الأسعار المخيفة و الصاروخية التي يبلغها لي الهاتف الملعون، و النذير بما سيصيب جيبي من ثقوب، إن حاولت الاقتراب من الفنادق أو الشقق الفندقية. أصبح رقم 2000 و 3000 درهم في فنادق عادية دافعا لغلق التلفون. قرأت قبل أيام أن والي طنجة صرخ أو ” تنرفز ” في وجه أحد المستشارين، الذي تكلم عن ضعف الطاقة الفندقية الاستيعابية بهذه المدينة الجميلة. و أدعو السيد الوالي إلى الإطلاع على أسعار الفنادق بطنجة للتأكد من طغيان ضعف العرض أمام حجم الطلب على الفنادق. و أدعو كل من شك في غلاء الفنادق أن يحاول البحث عن حجز في كثير من مدن المغرب السياحية بدءا بمراكش و وصولا إلى طنجة دون استثناء الدار البيضاء و الرباط و أكادير و الصويرة و تطوان. الأسعار لا علاقة لها بتلك التي يستفيد منها السياح الأجانب. و لمن يشك في هذا الكلام الإسراع للإطلاع على المعطيات الإحصائية لمكتب الصرف. خلال الشهور الثلاثة الأولى لهذه السنة، تزايد عدد السياح الأجانب بأكثر من 22%،بينما لم تسجل عائدات السياحة أكثر من 3،5%. و هذا التفاوت يعكس ما يستفيد منه السائح الأجنبي في بلادنا. و يعكس أيضا لجوء كثير من الأجانب إلى كراء غرف لدى أسر في أحياء شعبية، و الحصول على وجبات بدراهم معدودات. و هكذا أصبح المغرب في قمة البلدان المشهور بأكل الشوارع و الازقة ” الفود ستريت”.
و لا زلت أبحث عن سعر الفنادق في بلادي و اقارنها بأسعار فنادق إسبانيا و البرتغال و تركيا و كثير من دول آسيا. أصبح سعر 2000 درهم في فنادق عادية متداول و ” بلا حشمة و لا حياء”. و من شك في هذه الوضعية فليدخل إلى مواقع الحجوزات الفندقية. تشجيع السياحة الداخلية شعار فارغ. و تظل بعض جمعيات الأعمال الإجتماعية، وخصوصا تلك التي يستفيد من خدماتها نساء و رجال التعليم. تقدم خدمات فندقية عالية المستوى بأسعار تناسب القدرة الشرائية لمن لا قدرة له على مواجهة موجة الغلاء التي تعرقل السياحة الداخلية.
تزايد الأداء نقدا في كثير من الفنادق

و لا زالت دار لقمان على حالها. حاولت إدارة الضرائب تنظيم عمليات أداء فواتير الفنادق عبر البطاقات البنكية، و لكن عديد من الفنادق توصي موظفي الإستقبال بالتأسف عن الأعطال التي تصيب آلات الدفع بالبطاقة. و يتفهم كثير من نزلاء الفندق صعوبة شبكة الانترنثيت ،فيؤدي الفاتورة نقدا. و الأمر معتاد لدى الكثير من المصحات الخاصة. و يعد هذا الأمر خطيرا لأنه يساعد على التملص الضريبي و على غسيل الأموال، و بالأخص على إرتفاع حجم الأموال المتداولة نقدا داخل منظومة الكتلة النقدية. تذهب إحصائيات بنك المغرب بأن مبلغ التداول ” بالكاش ” بلغ 400 مليار درهم. و يستنتج من هذا الرقم أن عملية ” السلم الضريبي” التي مكنت من تصريحات بلغت أكثر من 100 مليار درهم، لم يكن لها تأثير على حجم الأموال المتداولة. و يوجد قطاع الفنادق، و كراء الشقق و الكثير من المطاعم على رأس من لا علاقة لهم بالأداء الإليكتروني أو بالشيك.
إمكانية الإقتصاد التضامني في دعم السياحة

و سنظل نتكلم على السياحة الداخلية إلى مرحلة قد يعم خلالها اليأس. و ستظل كل سياسة تعتمد على مبادئ الإقتصاد التضامني الإجتماعي هي الوسيلة للولوج إلى الإستفادة من منتوجات السياحة الداخلية. و وجب التأكيد على أن دعم هذا الإقتصاد ، بكل الوسائل التي يستفيد منها كبار المستثمرين في مجالات العقار و الفلاحة و التصدير و الصيد في أعالي البحار، سيخلق دينامية لخلق قيم إضافية كبيرة، و يفتح أبواب تخفف من معاناة الطبقة الوسطى. هل امعن الوزراء و رؤساء الأحزاب في اختيارات بلادنا ، و أبدوا جرأة لنقدها ، و إظهار وعيهم بأهمية القطاع في دعم ميزان الاداءات، و في تعزيز القيمة المضافة لقطاع الخدمات. و جب الإخبار أن مداخيل تركيا من السياحة بلغت في سنة 2024 حوالي 64 مليار دولار، مع العلم ان هذا البلد أغلق أكثر من 4000 فندقا لوجود أخطاء قد تسيء إلى سلامة السياح. و هناك أرقام تهم دولا آسيوية، مرت بمراحل عصيبة قبل سنوات، حققت أرقاما في قطاع السياحة تجاوزت ما اعتبرناه خارطة الطريق الإستراتيجية في بلادنا.
الذكاء الاصطناعي يعدد نقائص السياحة
و حاولت أن أبحث عما يقوله الذكاء الاصطناعي عن السياحة الداخلية ببلادنا، فكانت خلاصاته متطابقة مع يعبر عنه المواطن عن السياحة الداخلية ببلادنا . و قد حدد هذا الذكاء معيقات سياحتنا في ثمان محاور يمكن تلخيصها في ” ضعف القدرة الشرائية للمواطنين، و غلاء أسعار الخدمات السياحية، و ضعف البنيات التحتية و الترويج للمنتوج السياحي، و سوء معاملة السائح، ونقص في التنويع و الأنشطة الترفيهية. و زاد هذا ” الذكاء الاصطناعي ” من حدة خلاصاته ليصل إلى معيقات ذات طابع ثقافي في بعض الجهات المحافظة التي تشكل قيودا إجتماعية. و ركزت الخلاصات الختامية على غياب سياسة واضحة لتشجيع السياحة الداخلية عبر تخطيط إستراتيجي أو تحفيزات لتشجيع السياحة الداخلية. و تظل هذه الخلاصات مستقاة مما تمت كتابته أو قوله من طرف مواطنين أو مهتمين بشأن عام يهم فئات كبيرة من المغاربة.
قطارات لا تساهم في النقل السياصحي
كنا نحلم قبل سنوات بقطار يقلص المسافات بين المغرب، و بدأت النتائج تظهر و تدفع المواطنين إلى الإقبال على القطار. و لا زال القطار يحتاج إلى قاطرة مؤسساتية لإصلاح كثير من الاعطاب حلمنا بميناء كبير، فأنجزنا ميناء طنجة المتوسط الذي أصبح عالميا بامتياز، و لا زلنا ننتظر ميناء الداخلة و الناظور و موانئ أخرى. و يجب أن يستمر حلمنا لتضييق الهوة بين قدرة طبقة وسطى وبين الولوج إلى بنيات سياحية في الشاطئ و الجبل. و الأمر كبير و يضم قطاعات كثيرة يجب أن تحمل شعار محاربة الفوارق الإجتماعية و المجالية. و هذا شعار دولة نطق به، غير ما مرة، ملك البلاد. و يجب أن يظل مقياس مردودية أية سياسة عمومية هو ما تضيفه إلى معدل نمو الناتج الداخلي الإجمالي، و تأثيرها على سوق الشغل، و تقريب البلاد من مرحلة الإقتصاد الصاعد. و سأظل اقارن بلادي بمسار الفيتنام الذي كان يحترق بفعل قنابل أمريكا إلى غاية 1971. و يصل ناتجه الداخلي الإجمالي في سنة 2024 إلى 500 مليار دولار مقابل حوالي 160 مليار دولار في بلادنا. لا زلنا، كمغاربة، نؤمن بأن الحكامة في مفهومها الإستراتيجي و الحقوقي و السياسي، و القانوني، و المحساباتي، للقضاء على مظاهر الريع، يمكن أن تقودنا إلى مسار تنموي يتجاوز ما حققته الفيتنام و كثير من نمور آسيا.