أمل الشباب الوطني في مواجهة الواقع
يطمح العديد من الشباب المغاربة إلى الولوج إلى سوق الشغل عبر قطاع النقل السياحي، الذي يعد قطاعاً واعداً يوفر فرص عمل موسمية ودائمة على حد سواء. غير أن هذا الأمل كثيراً ما يتحول إلى خيبة بسبب تعقيدات الواقع الاجتماعي والاقتصادي، وعلى رأسها شرط الحصول على البطاقة المهنية للنقل السياحي. هذه البطاقة، التي فُرضت بموجب المرسوم رقم 2-10-314 لسنة 2010 لتنظيم المهنة وضمان الجودة والتأهيل، كان يُفترض أن تكون جسر عبور نحو العمل الكريم، لكنها صارت عند فئة من الشباب عبئاً إضافياً يجلب ديوناً والتزامات مالية غير متناسبة مع واقعهم.
المشكل ليس محصوراً في مدينة معينة، بل يمتد على المستوى الوطني: الشباب في مراكش، فاس، طنجة، أكادير، والرباط وغيرها يواجهون نفس العراقيل. تشير إحصاءات وزارة النقل واللوجستيك لسنة 2022 إلى أن عدد السائقين المهنيين يفوق 200 ألف شخص في المغرب، من بينهم حوالي 12 ألف في النقل السياحي، مما يعكس أن المعضلة ليست محلية بل وطنية.
البطاقة المهنية: أساس قانوني وأداة تنظيمية
1. البطاقة المهنية شرط أساسي لمزاولة النقل السياحي
يتطلب الحصول على البطاقة المهنية المرور بمسار تكويني محدد، واستيفاء شروط طبية وإدارية دقيقة. جاء المرسوم رقم 2-10-314 ليحدد البطاقة كشرط أساسي لمزاولة مهنة السائق السياحي، بهدف تنظيم سوق النقل وضمان جودة الخدمات المقدمة للمواطنين والزوار على حد سواء. هذه الخطوة القانونية توفر إطاراً رسمياً يضمن تأهيل السائقين ورفع مستوى المهنة، مما يحمي المستفيدين ويعزز سمعة القطاع.
2. البطاقة المهنية وأداة للحماية الاجتماعية
يتيح القانون الإطار رقم 09-21 المتعلق بالحماية الاجتماعية للعمال ربط التسجيل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS) بالبطاقة المهنية. هذا الربط يجعل البطاقة أداة مزدوجة: تنظيمية من جهة، وحماية اجتماعية من جهة أخرى. إلا أن التطبيق العملي كشف عن تحديات كبيرة، خصوصاً فيما يتعلق بضمان استفادة جميع حاملي البطاقة من التغطية الاجتماعية الفعلية، دون فرض التزامات مالية على من لم يمارسوا النشاط المهني.
على الرغم من توقيع اتفاق بين وزارة النقل ووزارة الإدماج المهني لتنظيم دورات تكوينية مجانية، فإن عدد الوظائف المتاحة محدود مقارنة بعدد الحاصلين على البطاقة، ما يخلق فجوة بين الحصول على البطاقة وفرص التشغيل الفعلية.
سلبيات تنزيل ورش التغطية الاجتماعية على السائقين المهنيين غير الأجراء
رغم النوايا الحسنة، فإن تطبيق التغطية الاجتماعية على حاملي البطاقة المهنية للنقل السياحي أفرز مجموعة من الإشكالات الجسيمة، أبرزها ربط الاستفادة من التغطية بالبطاقة المهنية بشكل مباشر بالتصريح الإجباري لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (CNSS)، دون مراعاة الوضعية الفعلية للشخص وحقيقة مزاولته للنشاط المهني.
هذا الربط الآلي خلق وضعية مفارقة: حيث أصبح العديد من حاملي البطاقة، حتى ممن لم يعملوا يوماً كسائقين مهنيين، مدينين بمبالغ متراكمة ومتنامية للصندوق، بما يفوق قدراتهم المالية، ودون أن يحصلوا على أي خدمة صحية أو دعم اجتماعي فعلي. ضعف التواصل والتوعية من جانب الجهات المعنية زاد الطين بلة، إذ لم يكن هناك تبيين واضح للشروط والالتزامات قبل الحصول على البطاقة، ولا آلية لتعليق البطاقة أو الاشتراكات عند توقف النشاط، مما يحول وسيلة حماية إلى عبء ثقيل يهدد الاستقرار المعيشي للشباب
حكايات شباب بين البطاقة والديون
قصة عبد المولى
عبد المولى، شاب مغربي حاصل على الإجازة في اللغة الإنجليزية، وجد نفسه بعد التخرج يطرق أبواباً عديدة للبحث عن عمل يناسب دبلومه. من بين المجالات التي استهوته كانت سياقة السيارات السياحية، غير أن دبلومه لم يكن كافياً، إذ كان لزاماً عليه الحصول على البطاقة المهنية. اجتاز دورة تكوينية مخصصة لذلك، واستبشر خيراً، لكنه فوجئ بأن الفرصة ضاعت منه بعدما سبقه غيره إلى مناصب الشغل المتاحة، ليعود إلى بطالته وبحثه المستمر عن فرصة جديدة.
المفاجأة الأكبر جاءت بعد سنوات، حين تلقى إشعاراً من CNSS يطالبه بتسديد ديون مترتبة عليه، رغم أنه لم يشتغل يوماً في النقل السياحي. عبد المولى قام بسحب البطاقة المهنية وقدّم للصندوق الوثائق التي تثبت ذلك، لكن الإشعارات لم تتوقف، بل كانت قيمتها تتضاعف في كل مرة، في حين لم يستفد قط من تغطية صحية أو أي خدمة اجتماعية.
قصة لحسن
أما لحسن، فهو فلاح بسيط يعيش في إحدى القرى القريبة من مراكش، وأب لأسرة صغيرة، كان يسعى لتأمين دخل إضافي يساعده على تغطية حاجيات أسرته اليومية. بعد أن نصحه جاره جمال بالحصول على البطاقة المهنية للنقل السياحي، خضع لحسن للدورة التكوينية واجتازها بنجاح، معتقداً أن هذه الخطوة ستفتح له باباً للعمل المستقر.
لكن واقع الحياة كان أقسى مما توقع. محدودية مستواه التعليمي وارتفاع المنافسة بين حاملين البطاقة المهنية جعلاه يعود إلى فلاحة موسمية بالكاد توفر له قوت يومه، وفي أثناء بناء بيته المتضرر من الزلزال الأخير، وقع حادث مؤلم: تعرض ابنه الصغير لإصابة استلزمت إجراء مجموعة من الفحوصات والتحاليل الطبية المكلفة.
حين سعى لحسن للاستفادة من التغطية الصحية، فوجئ بالواقع المرير: لا يمكنه الاستفادة من التغطية الصحية أو الدعم الاجتماعي لأن اسمه مسجل لدى CNSS كمدين بأكثر من 7000 درهم، رغم أنه لم يمارس المهنة يوماً. البطاقة المهنية التي كان يراها وسيلة لتحقيق الأمان والاستقرار تحولت إلى عبء مالي ونفسي كبير.
قصص مشابهة
جمال، الذي شجع جاره لحسن على الحصول على البطاقة، وجد نفسه في نفس الورطة: بطالة مزمنة، إشعارات متواصلة من CNSS، وعجز تام عن تسوية وضعيته. قصص مشابهة تتكرر في مختلف مناطق المغرب، ما يجعل المشكلة وطنية وليست حالات فردية. هناك حاجة لتسجيل تجارب سائقين آخرين من شمال المغرب وجنوبه لتعزيز الصورة الشاملة للواقع.
توصيات عملية: نحو معالجة عادلة
لتجاوز الإشكالات المرتبطة بالبطاقة المهنية للنقل السياحي والتغطية الاجتماعية للسائقين المهنيين غير الأجراء، يُقترح اعتماد مجموعة من الإجراءات العملية. أولاً، ربط تسجيل حامل البطاقة في CNSS بالنشاط الفعلي، بحيث لا يتحمل أي التزامات مالية إلا عند مزاولة المهنة بالفعل، مع إمكانية تعليق البطاقة مؤقتاً عند توقف النشاط. ثانياً، وضع حد أدنى مرن للاشتراكات يراعي الدخل الفعلي للسائقين، مع آلية حماية مؤقتة للفئات الموسمية أو الجزئية تتيح لهم الاستفادة من الحد الأدنى من الخدمات الصحية والاجتماعية دون فرض ديون غير مستحقة. ثالثاً، إنشاء منصة رقمية موحدة تمكّن السائقين من متابعة وضعيتهم، معرفة المستحقات، وتقديم الشكاوى بسرعة وشفافية. رابعاً، تعزيز برامج التدريب والتوعية القانونية المستمرة، لضمان اطلاع الشباب على حقوقهم وواجباتهم قبل وبعد الحصول على البطاقة المهنية. خامساً، تأسيس لجان جهوية ووطنية للنظر في النزاعات المتعلقة بالبطاقة المهنية والتغطية الاجتماعية، لتسهيل حل المشكلات بسرعة ومنع تراكمها. وأخيراً، تعزيز التعاون بين الوزارات والهيئات المعنية—وزارة النقل، وزارة الإدماج المهني، CNSS، ووكالة التأمين الصحي—لتنسيق الجهود وضمان تنزيل الورش الوطني بطريقة عادلة وفعالة تحقق الهدف المزدوج: حماية المهنة وحماية المواطن.
ورش وطني يحتاج إلى تصحيح المسار
مشروع تعميم التغطية الاجتماعية يُعد ورشاً ملكياً وطنياً كبيراً، يعكس التزام الدولة بضمان الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، وخاصة الفئات المهنية الهشة وغير الأجراء. نجاح هذا المشروع يعتمد على تنزيله على أرض الواقع بطريقة منصفة ومرنة، تراعي التنوع الاجتماعي والاقتصادي للمستفيدين وتتفادى فرض التزامات مالية على من لم يمارس النشاط المهني.
البطاقة المهنية، رغم أهميتها القانونية والتنظيمية، لا يجب أن تتحول إلى أداة ضغط أو عبء مالي على الشباب العاطل. فقد بينت التجارب الواقعية لعبد المولى، لحسن، وجمال كيف يمكن أن تتحول وسيلة أمل إلى مصدر معاناة إذا لم يُراعَ الواقع الفعلي للمستفيدين. الإصلاح الحقيقي يكمن في تطوير آليات مرنة للتنزيل، مثل ربط الاشتراك بالنشاط الفعلي، تعليق البطاقة عند توقف المهنة، وتيسير سداد الاشتراكات بما يتناسب مع الدخل، مع تعزيز التوعية وفتح حوار وطني لتقييم النتائج وإدخال تعديلات تصحيحية.
بهذه الطريقة، يمكن تحويل الورش الاجتماعي من مشروع طموح لكنه معقد إلى أداة حقيقية لحماية المهنة وحماية المواطن معاً، لضمان ألا يكون حلم الشغل بداية لمأساة اجتماعية، بل فرصة حقيقية للاندماج الاقتصادي والاجتماعي.